لم تكَد صرختُنا الأَحدَ الماضي تبلُغ مداها عن “جمهورية الصيصان” في “مؤَسسة كهرباء لبنان”، حتى طالعَـتْنا هذا الأُسبوع على شاشات التلـﭭـزيون صرخاتُ الناس من غُولَين رَهيبَين: انقطاعُ الـمياه الـمتواصل، وكمياتُ الملح الفاجعةُ في مياه المنازل (هذا حين “يَنْعَمُ” المواطنون بوصول المياه، خصوصًا في بيروت الكبرى).
أَمَّا انقطاعُ المياه، فــ”موضة” لبنانية غريبة عجيبة، هي الشقيقةُ التَوأَم لِـ”موضة” انقطاع الكهرباء وتَـحَكُّم أَصحاب الـمولِّدات برقاب الناس، تَـمامًا كــ”موضة” انقطاع الـمياه وتَـحَكُّم أَصحاب الصهاريج برقاب المواطنين. وبين المولِّدات والصهاريج يَدفَع المواطن اللبناني فواتيرَ لا انضباطَ فيها ولا معيارَ لها ولا مـن يُـحاسِب أَو يُـحاسَب.
وأَمَّا الـمُلُوحة الزائدة السامة القاتلة في مياه المنازل، فناجمةٌ عن سوءِ معالجة الـمياه الجوفية، وحَفْرٍ عشوائيٍ آبارًا أُرتوازيةً بلا رقابة، ما جعل انخفاضَ مستوى المياه الجوفية عن مستوى البحر يُؤَدّي إِلى اندماجها بِـمياه البحر. ومن هذا الاندماج “السَعيد” تَتَشَكَّل الأَمراضُ الجلدية، وتَـجِفُّ البَشَرة، وتَصدأُ الأَنابيب، وتهترئُ الأَواني المغسُولةَ تكرارًا بالمياه المالحة. وهذا يعني الاستنجادَ بالصهاريج للاستعمال اليوميِّ جَلْيًا وغَسْلًا واستحمامًا، والاستنجادَ من المحالِّ التجارية بالقناني الـمفترض أَنها مياهٌ معدِنيةٌ نقيةٌ للشرب والطعام والطبخ وسائرِ ما لا يصُحُّ له استعمالُ مياهِ البحر المالحة، وإِلَّا فهو السقوطُ في مآسٍ صحيةٍ وفواجعَ سرَطانية تنجُم عن السمُوم المخفية في المياه الأُرتوازية.
نَفهم أَنّ شحَّ المتساقطات وانخفاضَ منسوبِ الأَنهارِ والينابيعِ يؤَثِّرانِ في شَح المياه. إِنّما لا نَفهم كيف لا تَسمَعُ الدولةُ صراخَ الناس فتبادرُ إِلى حلولٍ لم تتأَخَّر عن اجتراحِها دولٌ قريبةٌ وبعيدةٌ تُـحلِّي مياهَ البحر وتُوَزِّعُها على المنازل فَتُؤّمِّنُ المياهَ إِلى مواطنيها الذين لا مطرَ أَبدًا لديهم ولا ثلوجَ ولا ينابيعَ، ومع ذلك يَعيشون بـرغَدِ البحبوحة، لديهم بدون انقطاعٍ مياهٌ مُكَرَّرةٌ مُـحلَّاةٌ معالَـجَةٌ مراقَــبَــةٌ نقيةٌ صحيةٌ صالحةٌ للشُرب والطبخ والاستعمال اليومي، بلا عقوبةِ عطشٍ، ولا أَزمةِ شَحٍّ، ولا مشكلةِ انقطاعٍ، ولا جراثيمَ في الأَنابيب، ولا صدإٍ في القنوات، ولا مُلُوحةٍ في مياه المنازل.
وكما يتحكَّم أَصحاب المولِّدات بالناس سَلْخًا بِكلفةٍ غالبًا غيرِ مضبوطةٍ ولا مراقَبَة، يتحكَّم أَصحاب الصهاريج بالناس ويَـحملُون إِليهم المياهَ الصالحةَ من سُـبُلٍ شعبية في الساحات العامَّة، ومن محطاتِ مياه للدولة لا نَفهَم كيف تَنفتح لهم بِـخَيراتها وأَحجامها ولا تَـجري من تلك السبُل والمحطات إِلى بيوت الناس.
وفي تنبيهٍ أَخيرٍ قبل أَيام، أَنَّ البقاءَ على معدَّلاتٍ متدنيةٍ من المتساقطات يُنذِر باجتياح المياهِ المالحةِ جميعَ المناطق القريبة من الشاطئ، لاختلاطِ مياهِ البحرِ المالحةِ بالمياهِ العذبةِ الجوفيةِ الـمُخَزَّنة.
وكما صرَّحَ بيانُ “مؤَسسة كهرباء لبنان” أَنَّ “الصيصان مَـخفيُّون ولا يُكَــبِّدُون المؤَسسةَ خسائِرَ مادية”، كذلك صَرَّح مسؤُولٌ كبيرٌ في “مؤَسسة مياه بيروت وجبل لبنان” أَنَّ “الأَملَ الوحيدَ هو المطَر. فَحين تُمطِر يَعودُ كلُّ شيْءٍ طبيعيًا، وفي انتظاِر ذلك ليس في اليَد حيلة لحلولٍ إِضافية”.
الكَذِب ملْحُ الرجال؟ صحيحٌ جدًّا. فها هو الملْح في مياه الشُرب يَدُلُّ على كذِب المسؤُولين، للتَواني عن القيام بواجباتهم.
هكذا بكُل بساطة؟ نعم: هكذا بكُل بساطة.
ومَتى وصل مسؤُولٌ في بلدٍ إِلى عُقْم إِيجاد الحلول، ورَفْعِ يدَيه إِلى السماء مُعْلنًا أَنْ “ليس في اليد حيلة”، فَبِئْسَ الـحـلُّ الذي يَستسقي المطر ليَسقي شَعبًا أَقَلُّ ما يستطيعُهُ أَنْ يَـخلَعَ عن الكراسي مَسؤُولينَ حَلُّهم الوحيدُ جوابُهم أَنْ… “ليس في اليد حيلة”.
هـنـري زغـيـب