أَزرار” – الحلقة 1045
الــدُونُوقــراطــيــا
“النهار”  –  السبت 28 تموز 2018

عن بُزُرجمِهر (الحكيم الفارسيّ وزير كسرى أَنو شروان الأَوَّل) أَنه سُئِلَ يومًا: “كيف دالَت دولةُ بني ساسان مع ما كانت عليه من عظيمِ الشان”؟ فأَجاب: “دالت عندما صِغارُ القوم تسلَّموا فيها كُبرى الـمُهِمّات”، مُلْمحًا إِلى اندحار الأَمبراطورية الفارسية الثانية (226-651) أَمام فتْحِ العرَبِ المسلمينَ بلادَ فارس بعدما كانت أَمبراطوريةً عظيمةً راحت تتلاشى بــضُعف حُـكَّامها.

وعن أَبي عبدالله الصغير أَنه اعتلى تلَّةً راح منها يودِّعُ غرناطة باكيًا إِياها بعدما سقطَت، فقالت له أُمُّه:” إِبكِ مثلَ النساء حُكْمًا مُضاعًا… لم تُحافظْ عليه مثلَ الرجالِ”، وكانت تلك نهايةَ ملوك الطوائف إِذ راحوا يتجاذبون الحكْم حتى انهاروا جميعًا وأَضاعوا الأَندلس فاستعادها الإِســﭙــان سنة 1492 بعد سبعة قرونٍ من تَــوَهُّج الحكْم العربي فيها.

يأْخُذني هذان الـحَدَثان القديمان إِلى كتابٍ[1] للمفكِّر الكَنَديّ آلان دونِــيْــيُـو عن “الدُونوقراطيا”[2]، ووجدْتُ “الدونيين” أَقرب معاني كلمة médiocres الفرنسية: مَــن هُم “دُون” الوسَط تفكيرًا وسُـلُوكًا وتَـوَلّـي مسؤُوليات. وفي تعريف المؤَلّف كتابَه: “الدُونوقراطيا باتت في عصرنا نـموذجَ الحُكْم الحديث: أَلَّا تكون استثنائيًّا، أَلَّا تَخرج عن الصف التقليدي، أَلَّا تفكِّر خارج السياق العام، أَن تبقى في الوسَط على أَنه “خيرُ الأُمور”، أَن تبقى عاديًّا كما هو سائد فلا تُحْدِثَ تَـمَوُّجاتٍ في الـمياه الراكدة. هكذا الدُونيون يتسلَّمون الـحُكْم فيشكِّلون الدُونوقراطيا”. وهذا ما كان اختصره لابْرُوِيِّـــير في كتابه “الطبائع” بأَنّ “الدُونـيّ هو دون الوسَط بين الفوقيّ والتحتـيّ. ليس عالِـمًا فيتقرَّب من العُلماء، ليس موهوبًا فيتقرَّب من الموهوبين، ليس حاذقًا لكنَّ له لسانًا يستعمله للادِّعاء، وقَدَمَين تَـحملانه إِلى حيثُ يُـحابي ويَــتَــثَــعْــلَــبُ ويستزلِـمُ كي يَصل”.

هكذا تدولُ الدول: حين يَــبْلُـغُ الـحُكْمَ فيها مَن ليسوا أَهلَ كفاية ولا دراية ولا عناية وليس لديهم حلول لأَيِّ معضلة. وَضيعون غيرُ مُتواضعين، معتادون متعدِّدون مُـعْـتَـدُّون متعَدُّون و”دُون” العاديين.

هكذا تنهار أُسُس الـحُكْم: حين يروح الناس يعتادون على الأَخطاء والأَغلاط والشواذات والتجاوزات حتى تصبحَ عادةً يوميةً فلا يعودوا يهتمُّون لتغييرها أَو للانتفاض عليها.

هكذا تتحطَّم آمال الناس: حين يجدون المسؤُولين إِيّاهُم يعودون إِلى السُلطة عهدًا بعد عهد، ولايةً بعد ولاية، وليسوا، في معظمهم، أَكفياء للسُلطة والحُكْم، ولا الواحدُ منهم هو الشخص المناسب في المركز المناسب.

هكذا يتصنَّف الناس بين الإِحباط أَو الثورة: حين يتوزَّعُ المناصبَ والمراكزَ والمسؤُولياتِ أَزلامٌ ومـحاسيبُ وحاشيةٌ وأَبناءٌ وأَصهارٌ، وحين تكونُ المناصبُ جوائزَ ترضية، أَو هدايا إِخوانيةً، أَو مُـحاصصاتِ كوتا طائفية أَو سياسية أَو مذهبية أَو محسوباتية.

هكذا ينطفئُ وهْجُ الوطن أَندلُسًا فاشلة: حين ينتقل من حُـكْم الديموقراطيا وأَعلامها إِلى “حُكَماء” الدُونوقراطيا الأَقــزام.

هـنـري  زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib

[1]   La Médiocratie – Alain Deneault – Éditions Lux – 2015 – Montréal

[2]   على وزن الديموقراطيا والبــيروقراطيا والأُوتوقراطيا.