بين آخر ما وصلَني بالتواصل الاجتماعي، فيلمٌ قصير من أَربع دقائق عن رئيس الحكومة الهولندية مارك رُوتِّه (Rutte) داخلًا إِلى مجلس النواب حاملًا كوبَ قهوة. اصطدمَت يدُه بعمود الباب فوقع منها الكوب على الأَرض وعلى عمود الباب. هُرِعَت العاملةُ حاملةً ممسحةً لتنظيف الأَرض، فأَبى رئيسُ أَعلى سلطةٍ تنفيذيةٍ في البلاد إِلَّا أَن يأْخذَ منها الـمَمْسحة، ويُنَظِّفَ هو البقعةَ حيث سالت قهوتُه. ثم تناول من العاملة قطعةً قماشية وانحنى أَرضًا يُنظِّف عمود الباب مما تناثر عليه، وما هي حتى رأَى حوله جمعًا من عاملات التنظيف في حالة استغرابٍ وطَرافة، حتى إِذا انتهى تمامًا من التنظيف رُحْنَ يصفِّقْن مبتهِجاتٍ لرُؤْية هذا الشاب النشيط (ابنِ الحاديةِ والخمسين ورئيسِ مجلس الوزراء منذ ثماني سنوات) يَـمسح الأَرض وينظّف الباب من بُقَع القهوة، ثم تَعصى عليه عصا الـممْسحة فيَطلب من إِحداهُنَّ تعليمَه كيف يستعملها كي يُكمِل التمسيحَ كليًّا، رافضًا أَن تُكملَه عنه العاملة.
وسْط هذا المشهد، ورئيسُ الحكومة منهمكٌ بتمسيح الأَرض، مرَّ به موظَّف يُـمَرِّر بطاقة الوظيفة على الآلة الإِلكترونية كي يُسجِّل ساعةَ وُصُوله إِلى العمل، نَظَر لحظةً وأَكمَل دخولَه إِلى مجلس النواب من دون أَيِّ اكتراثٍ لرئيس الحكومة يَـمسَح الأَرض بـممْسحةِ عاملات التنظيف.
عاينتُ هذا المشهد الذي وصلني قبل أَيام، وكنتُ قبْله عاينتُ مشاهدَ مُـماثلةً: مشهد رئيس حكومةٍ يَذهب إِلى مكتبه بسيارته أَو على درّاجته من دون أَيِّ مرافقةٍ أَو موكبٍ استعراضيّ، أَو مشهد وزيرةٍ تتناول الفطور على طاولةٍ واحدة مع موظَّفي الوزارة وتَكوي ثيابَـها في الغرفة الـمُحاذيةِ مكْــتَــبَها، أَو مشهد وزيرٍ أَو نائبٍ أَو سياسيٍّ كبيرٍ في بلاده يَدخل الـ”سوﭘــرماركت” ويتبضَّع عن الرُفوف بدون مُرافقٍ يَـحمل له أَغراضه، أَو سائقٍ يَتبَعه كي يَنقل له الأَغراض إِلى السيارة.
الشاهدُ من كل هذه الـمَشاهد، أَنّ أَركان الحكْم في الدُوَل العريقة، يتصرَّفون كمُواطنين عاديين، يُؤَدُّون واجبهم في مكاتبهم، وخارجَها هم ناسٌ عاديُّون كسائر مواطنيهم، تَغيبُ عنهم عنترياتُ سيارات المواكبة وشتائمُ سائقيها كي يرتمي المواطنون على جانب الطريق حتى يَـمُرَّ موكبُ معالي الوزير أَو سعادة النائب، ومن دون إِقفال الطرُقات الـمُؤَدّية إِلى حيثُ يَسكن أَو يَـمُر دولة الرئيس.
السياسيّ، في الدول الراقية (يعني غير الـمتخلِّفة) يَعتبر أَنه في خدمة الشعب، ويتصرَّف على أَنه مواطنٌ عاديٌّ برتبة مسؤُول. أَما في الدول غير الراقية (يعني الـمتخلِّفة) فالسياسيُّ يتصرَّف على أَن الشعب في خدمته، وعلى أَنه “مواطن شرف” والباقين مواطنون من درجةٍ دُنيا وعليهم تاليًا أَن يَظَلُّوا في درجتِهم ويهيِّصوا لـ”مواطن الشرف”: “بالروح بالدم نفديك”، ويومَ الانتخاب يَسيرون طائعين خانعين يعطون بكُل ذُلٍّ صوتَـهُم التفضيليّ لهذا الذي حياتُـهم من فَضلاته، والذي، إِذا دَلَقَ خَطَــأً كوبُ القهوة وَجَدَ عند قَدَمَيه عشَرات الأَزلام يَـمْسحون الأَرض بكُل ذُلٍّ ويَـمْسحون حذاءَه ويَـمْسحون جباههم بقدَميه اللتين قد يرفعُهما فوق رؤُوسهم لأَنه “دولة فلان”، أَو “معالي فلان”، أَو “سعادة فلان”، ولأَنه “مواطن شرف”، والباقين أَمامَه مواطنون من الدَرجة الدنيا.
وكلّ رئيس حكومة، ومـمْسحة هولندا بأَلْف خير.
هـنـري زغـيـب