بين اندلاع وسائل التواصل الاجتماعي بأَخبارٍ وصُوَرٍ عن الـمتسوِّلة الـميليارديرة التي توُفّيت داخل وكرها في سيارة قديمة، وفي جُحرها الـملايينُ نقدًا ودفاترُ توفيرٍ تكشف ثروتها، واندلاعِ خمسَ عشْرةَ دقيقةً متواصلةً من التصفيق وُقوفًا للُّبنانية نادين لبكي في مهرجان كانّْ السينمائي إِثْر عرض فيلمِها الجديد “كفرناحوم” الذي نال بامتيازٍ جائزةَ لجنة التحكيم الدولية، جامع مشتَرَكٌ واحدٌ: البؤْس والتَشَرُّد.
والتَشَرُّد له حلٌّ واحد: الرعاية الاجتماعية. وهذه مسؤُوليةٌ دقيقةٌ تتولى إِدارتَها الدولُ وتُوليها العنايةَ الضرورية، من ضماناتٍ صحية أَو ترتيب مآوى أَو مساعدات عينية تتوزَّع وَفْق حالات الـمُعْوزين فقرًا أَو الـمُشَرَّدين بلا بيوت، أَو النازحين عن بلادهم، أَو اللاجئين في بلدان الآخرين، حتى لا تتفاقم الحالة فتصبح مؤْذيةً اقتصادَ البلد الـمُضيف ومهدِّدةً وضْعَه الديموغرافي أَو الجغرافي أَو الاجتماعي.
من هنا كانت كلمةُ نادين لبكي لدى تَلَقّيها خبرَ فوزها بالجائزة: “لا يمكننا إِهمال صغارٍ يعانون في وجه الفوضى الـمُـتفشّية في هذا العالـم”. قالتْها موضحةً موضوعَ فيلمها الـمعالِـجِ حالةَ الولد الفقير زين ابن الثانية عشرة الذي يريد رفْع دعوى على والدَيه لأَنهما أَنجباه في هذه الحالة الـمُزْرية بسبب عدد أَولادهما، كما سيحاول منْع تزويج شقيقته الصغرى بحجة أَنها بلغَت سن الزواج.
وإِذا كنا لا نعرف مهنة والد الولَد زين الغارق في التشرُّد، فإِننا نعرف أَن الـمليارديرة فاطمة محمد عثمان امتهنَت التسوُّل واغتنَت منه أَكثر من أَيّ عمل آخر كانت ستقوم به. لذا نرى حولنا وأَمامنا على نواصي الطرُقات نساءً وأَطفالًا وبناتٍ بثيابٍ رثَّةٍ تُثير الشفقة والغضب معًا، لعِلْمنا أَنّ وراء هؤْلاء الـمساكين رجلًا يمتهنُ التسوُّل ويحْسن إِدارته، وهو يرتع في مقَره منتظرًا حلول الـمساء كي يَجمع الأَولادَ والنساءَ والنقود، ويُـخزِّنَ حصيلة النهار أَو يصرفَها على أَراكيله أَو مَيْسَرِهِ أَو هواياته من كل نوع.
ومتى أَصبح التَسَوُّل مصدرَ رزقٍ وعملًا سهلًا لدى رجالٍ يتوزعون أَحياء المدينة كما كان في الحرب قبضايات الأَحياء، أَو عملًا مضْنيًا كتلك الـمتسوَلةِ الـمليارديرة، بات مُلِحًّا تَـحَـرُّكُ الدولة من جهة، ومن جهة أُخرى تَحَرُّكُ الجمعيات الإِنسانية وجمعيات الأَطفال والـمطاعم الخيرية والـمؤَسسات الاجتماعية كي تتضافرَ جميعُها على رفْع التَسَوُّل من الطرقات ونواصي الشوارع، والـمساعَدةِ على إِيجاد مأْوًى أَو عمَلٍ أَو ثيابٍ أَو مدرسةٍ لرفاق الولَد زين، وإِيجادِ تدبير إِنساني لزميلات الـمتسوّلة الـمليارديرة وزملاء مهنتها.
أَما أَن يظلَّ هؤُلاء منتشرين حُفاةً بائسين في الشوارع وعلى الأَرصفة والمفارق والتقاطُعات والنواصي، يهجُمون على نوافذ السيارات بائعين العلكةَ أَو شبيهتَها، أَو مادّين أَيديهم المشقَّقة لتَسَوُّل حفنةِ نقود، فأَمرٌ يؤْذي الوجه السياحي والوضع الاجتماعي والمؤَشِّر السياسي الذي يدُلُّ على العُقم في إِيجاد الحلول.
ومتى بلغَت الدولةُ هذا الحد الهشَّ من العجز، يعني أَنها باتت دولةً قاصرةً عن إِدارة البلاد بَدءًا من إِيجاد أَدنى درَجات الحلول.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib