تنتهي اليوم، الأَحد، ولايةُ المجلس النيابي ومعها ولايةُ الحكومة.
على أَنّ الولايةَ المنتهية بدأَت طلائعُ نهاياتها قبل أَن تنتهي، وقبل أَن يَجمَعَ النوَّابُ والوزراء أَوراقَهم وأَغراضهم وحنينَهم للعودة، ويضعُوها جميعَها في حقائبهم، ومعها ذكرياتُهم، ويَـحملُوها استعدادًا للرحيل.
قلت الـ”طلائِع”، والأَصحُّ أَن أَقول “إِشارات الرحيل” أَو “أَعراض الرحيل”.
ذلك أَنهم، في الأَيام الأَخيرة من الولاية النيابية، تشتدُّ هِـمَمُهم في حضور المناسبات والظُهور أَينما كان وكيفما كان، لتذكيرِ الناس بشخصهم الكريم الذي يرفدُه حشدُ صُوَرِهم على العواميد والحيطان.
وكذلك هم في الأَيام الأَخيرة من الولاية الوزارية، تشتدُّ هِـمَمُهُم فيتجلَّون في لطْف مفاجئ – بعد أُشهرٍ من العبوس والتزمُّت والوجه الـمُغْـلَق الـمقفَل البارد -، وفي المواظبة على الحضور إِلى الوزارة حتى آخرِ دقيقةٍ في آخر يوم، بعد فتراتِ غيابٍ خارجَ الوطن أَو داخلَ منتجعات الوطن، فيحرصُون فجأَةً على التمسُّكِ بالواجبات المهنية في المكتب وفي الإِدارة، وحضورِ احتفالاتٍ وكوكتيلاتٍ ومناسباتٍ لا تُحصى، والظهوِر أَكثرَ من قبل، والتخفيفِ من عَراضات المواكب والسيارات الداكنة الزجاج، والتوَدُّدِ وزيادةِ الاهتمام بما يَـحصل وما قد يَـحصل، وتسهيلِ الـمعاملات والإِنجازات والـملفَّات، على أَمل أَن يُرضي واحدُهم أَسيادَه لعلَّهم يَرضَون على أَدائه فيكافئُونه بإِعادته إِلى الحكومة في الوزارة ذاتِها أَو أَيِّ حقيبةٍ أُخرى تُبقيه في لذَّةِ أَن يسمع من الناس مناداةَ “معالي الوزير” ومخاطبتَـه بـ”صباح الخير معاليك”.
وفي سبيل هذه العودة الـمأْمولة الـمرتَـجاة، يُــبرزون مواهبَهم في عرض الملفّات والتأْكيد عليها في آخر جلسات مجلس الوزراء مُوحِين بأَنهم، إِذا عادوا إِلى مقاعدِ الحكومة من جديد، يَعِدُون بأَن سينجَحُون في إِنجاز ما لم يُنْجزوه لضيق الوقت، أَو لم يستطيعوا إِنجازه، أَو لم يُتيحوا لهم إِنجازه، أَو حال خصومُهم الاصطفافيون دون إِنجازهم إياه. لذلك يَبرعون في عرض أُطروحاتهم عمَّا أَنـجزوه وحقَّقوه، فيسحبون من أَدراجهم أَوراقًا راكدةً وملفاتٍ عتيقةً يَنفضون عنها الغبار، وينظِّفونها بحجة أَنهم مهتمُّون بتطوير الإِدارة ومحاربة الفساد ووقف الهدر، وأَنهم إِذا لم يُنجزوا هذه الملفات، فمن سيأْتي بعدهم قد يُهملُها بحجة أَنها ليست له، وعندئذٍ سيصيب الدولةَ الكسادُ، ويتعمَّم الفسادُ، ويستمرُّ الهدر، وتتوقَّف المشاريعُ الـمبارَكَة التي كانت نائمةً في الأَدراج، من هنا الحاجة الضروريةُ لعودتِهم إِلى هذه الوزارة كي تستقيمَ الأُمور، ويُكملوا ما بدأُوه خلال ولايتِهم الـمبروكة، فيعِدُون بالتقشُّف في المصاريف وأَلّا يُــؤَثّــثُـوا مكاتبَهم من جديد بملايين الدولارات وأَن يُـخففوا من المستشارين والمرافقين والمواكب العرضحالية التي تـحفظ أَمنهم الغالي.
هذه، وسواها كثيرةٌ بعد، بعضُ أَعراض الرحيل، علامات الرحيل، إِشارات الرحيل، مع قرب الرحيل، فكأَنه يومُ الوَداع الحزين، وكأَنه يومُ الساعة التي تقترب، وكأَنه يومُ الحشر، والخروج من جَــنَّـةٍ وزارية عاشوا على نعمتها بالطُول وبالعرض كأَنما هي دائمةٌ لهم وخالدةٌ، وباقيةٌ لهم حتى تكونَ… قيامةُ الساعة.
هـنـري زغـيـب
www.henrizoghaib.com