بعد 110 سنوات ما زال يحضنُها نابضةً حيةً ساطعةً أَبهى مما كانت يوم أَصدَر الطبعة الأُولى سنة 1908.
هو الناسك اللغوي لويس معلوف اليسوعي صاحب “المنجد” الذي صدرت أَخيرًا طبعتُه الثامنةُ والأَربعون بالغةً بها ما يفوق المليون نسخة منذ صدوره، ومكرِّسةً كلمة “الـمُنجد” لتعني “القاموس” في التداول العام والاختصاصي.
هنا نحن، من جديد، أَمام واقعٍ للُّغة العربية يَدحض بِـقُوَّةٍ تلك الـمقولة الخفيفة الضعيفة إِنّ “اللغة العربية مهدَّدة بالزوال” وإِنها “لم تَـعُـد في الاستعمال اليومي” وإِنّ “اللهجات المحلية والإِقليمية ستطغى عليها” وإِن “كتابتها بالحرف اللاتيني سيَقضي على كتابتها الأُمّ بالحرف العربي”.
بلى: واقعُها “يَدحض بِقُوَّةٍ” لأَنها لم تفقد مطلقًا أَيَّ نبْض من قوّتها، طالما هي حيةٌ في التداوُل اليومي مُكاتبةً رسمية ومُخاطبًة منبرية ومداولةً تأْليفية ومؤَالفةً إِبداعية، وطالما هي الأُمُّ الجامعةُ ملايين الناطقين بها والكاتبين بها في العالم. وها هي، بفضل فرسانها المتمكِّنين فيها الشغوفين بها المترسّلين لها في كل بلدٍ ومن كل مذهبٍ ودين ولن يترجَّلوا، ستبقى متأَلّقةً تواكب كلّ عصر وكلّ تطوُّرٍ وكُلّ نضارة.
أَمّا الادِّعاء بأَنها قاصرةٌ عن الحضور في مرافق العلم والتكنولوجيا والإِعلامياء العصرية والحديثة، فلا يعني اللغة الأُم بل أَبناءَها المشيحين عن الغوص على سياقاتها الغنية ومناجمها التعبيرية ورَحَابتها الاشتقاقية، والمقصِّرين عن أَن يُطْلعوا منها تعابيرَ وكلماتٍ ومرادفاتٍ ومفرداتٍ ومصطلحاتٍ ما أَوفرها في هذا اللغة الأُمّ التي، بِطواعيّة أَوزانها وَجَوَازاتها ومفْرداتها، يَـــتَّسع صدرُها لكل جديدٍ يدخل عليها، سواء من مخزونِها أَو من أَخَواتها.
وأَقول “من مخزونها” الغنيّ كي لا نلومَ أَبناءَ جيلنا الجديد إِن همُ “ارتحلوا” كتابيًّا أَو كلاميًّا أَو إِلكترونيًّا إِلى لغات أُخرى في مداولاتهم العصرية والحديثة، طالما لـم نُعْطِهِم من مخزون لغتِهم الأُمِّ مفرداتٍ يستعملونها فلا يستعيرون معناها من لغات أُخرى. وهنا دورُ المجامع اللغوية أَن توجدَ اشتقاقاتٍ عصريةً جديدةً تضَعُها في تصرُّف مستخدمي العربية فلا تعود تعْوِزُهم للمخاطبة والمكاتبة مفردةٌ عربيةٌ في هاتفهم الخَلَويّ أَو على أَجهزتهم الإِلكترونية، وعندئذٍ سيكتشفون كم لغتُهم الأُمُّ غنيةٌ تضاهي اللغات الأُخرى، فلا يعودون يخجلون من استخدامها أَو يُشيحون عن مفرداتها في أَيِّ استعمالٍ تكنولوجي أَو إِلكتروني.
وهذا يفترض العصرَنَة في مَن يجدُر بهم أَلَّا يتزمَّـتوا في اشتقاقاتٍ مُتَقَعِّرة، ولا في تَعصُّبات متحجِّرة، فالفرنسي المتعّصب للغته، الـمُعتزّ بفرنكوفونياه في العالم، جدّدت له الأَكاديميا الفرنسية أَخيرًا 2400 مفردة كي تواكبَ العصر ومتطلباتِه العلْمية والتكنولوجية.
إِنّ في اللغة العربية الأُمّ بِـحارًا واسعةً وعميقة، على الاختصاصيين من أَبنائِها الإِبحارُ في غمارها والغوصُ على دُرَرها كي يستخرجوا منها لأَجيالها الجديدة كُنوزًا جديدة من لآلئ الزمُرُّد والياقوت.