“أَزرار” – الحلقة 1033
لا  تكتُبْ  كما  تَـلْفِظ
“النهار” – السبت 14 نيسان 2018  

بعد اللقاءات الستة لــ”شهر اللغة الأُمّ” في “مركز التراث اللبناني” لدى الجامعة اللبنانية الأَميركية، خرجتُ بحصيلةٍ ذاتِ فوائدَ جمةٍ تُغْني مفهومَنا اللغةَ، وإِنما ذات شوائبَ تصيب استخدامَها كتابيًّا وشفويَّا أَتوقَّف عند ثلاث منها:

1) اعتناق مبدأَ “أُكتُب كما تلفِظ”. وهو خطيرٌ بـسطحيَّة استعمالاته، لأَن لفظ الكلمة ليس دائمًا مطابقًا صورةَ كتابتها. فابنُ الشمال اللبناني يلفِظ “جِبرُون خليل جِبرُون” وهذا لا يعني أَن أَكتبَها هكذا بل بصورتها الصحيحة “جبران”. وابنُ زحلة يلفِظ “بَدَّكْشْ تْروح” وهذا لا يعني أَن أَكتبَها هكذا بل بصورتها الصحيحة: “ما بدَّكْ”. وابنُ كسروان يلفِظ “تمسال” وهذا لا يعني أَن أَكتبَها هكذا بل بصورتها الصحيحة “تمثال”. ومعظمُ الناس يلفِظون “استـئْـلال” أَو “أَلْـبـي” وهذا لا يعني أَن أَكتبَهُما هكذا بل بصورتهما الصحيحة “استقلال” و”قلبـي”. إِذًا، فلنكتُب الكلمة بصورتها الصحيحة أَيًّا تكُن طريقةُ لفْظها. ومن يتحجَّجون بمبدَإِ سعيد عقل “أُكتُب كما تَلفِظ” ضالُّون لأَن هذا المبدأَ قد ينطبق على استخدام الحرف اللاتيني للَّفظ العربي ولا ينطبق مطلقًا على الكتابة بالحرف العربي. ولهذا شرْحٌ منطقيٌّ يطول، لا فسحةَ للتبسُّط به هنا.

2) استخدام اللغة وسيلةً فقط لا وظيفة، مع أَن وظيفيَّتها هي التخاطُب بعقل منَظَّم. الوسيلة متحوِّلة ويمكن تغييرُها إِلى أُخرى، بينما الوظيفةُ هادفةٌ ثابتةٌ لا يمكن تغييرُها وإِلَّا وقَع الخَطَل الـمُرعب. وما يؤْذي في اعتبار اللغةِ وسيلةً فقط: ذاك الخليطُ الهجين في التلفُّظ بكلماتٍ مستعارةٍ من لغات عدة في العبارة الواحدة. وهذا ينطبق على الملفوظ لا المكتوب، ما يعني الاستهانة بالمحكيّ الملفوظ والتهيُّب أَمام الـمُدَوّن الـمكتوب. واستبدالُ كلماتٍ من اللغة الأُمّ بسواها من لغات أُخرى: مَرَضٌ ذهنيٌّ وكسَلٌ منطقيٌّ وتباطُؤٌ عقليٌّ بإِيجاد الكلمة الصحيحة في اللغة الصحيحة. بلى: اللغةُ وظيفةٌ في ذاتها، وصقْلُ هذه الوظيفة يُـبقي العقلَ ناشطًا بـإِيقاعه السليم. واندثار اللغة المحكية يؤَذِّن بانهيارِها فزَوالِـها وسْطَ بابل اللهجات الـمتعددة ضمن المجتمع الواحد.

3) القناعة بأَن اللغة غير المستعمَلَة تموت. وهذا صحيحٌ إِنما لا ينطبق أَبدًا على العربية وثقافتها وجذورها، لأَنها لا تزال في الاستعمال اليوميّ كتابةً واستخدامًا رسميًّا وتأْليفًا متواصلًا. التي تموت هي إِمّا لهجاتٌ مَـحَليَّةٌ مَـحْكيَّة لم تَعُد في التخاطُب، وإِمَّا لغاتٌ منقرضةٌ لم تعُد تَصدُر فيها مؤَلّفات، ولا عادت معتمَدَةً في التخاطُب الرسمي المكتوب.

الخلاصةُ هي الثباتُ في المنطق الراسخ: اللغة الأُم ثقافةٌ، وهي لغةُ اللسان الشفوي والتخاطُب الكتابي. وطالـما العربية ما زالت لغةَ الإِبداع، فهي حيَّةٌ ونابضة، والتصويبُ عليها بلَهَجاتٍ مَـحْكيةٍ هجينةٍ وأَحرُفٍ مستعارَة، هو عمَلٌ مِسْخٌ يؤْذي استعمالَها لا جوهرَها، ويُشَوِّه مُستخدميها لا هيبتَها التي هي مرآةُ المنطق وبنتُ العقل ولغةُ التأْليف.

 هـنـري  زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib