“نقطة على الحرف” – الحلقة 1341
بــهَـؤُلاء أفـكِّـر  ليْلةَ رأْس السَـنَـة
إِذاعة “صوت لبنان” – الأَحَــد 31 كانون الأَوّل  2017

الـمَـنسيُّون… الـمَنفيُّون… الـمَتروكون على رصيف العمر

         في غَمرة العيد، والناس مغمورون بالعيد، وينتظرون صيحة الفرح بحلول العام الجديد، يذهب تفكيري إِلى النسيان البعيد.

         أُفكّر بنساءٍ ورجالٍ منسيين في مآوٍ، منفيين في صمتهم، متروكين على رصيف العمر يَـمُرُّ بهم العيد فلا يرونه، وإِنْ رأَوْه استقبلوه بدمعة خرساء فإِذا… وراء كل دمعة قصة.

         وفيما الناسُ الليلةَ يبتهجون، يبقى هؤُلاء خارجَ الفرح، لا بابُ النعمة ينفتح لهم، ولا هم قادرون على تَذَوُّق الفرح.

         وأَعود بسنواتهم سنواتٍ غابرةً، أَيام كانوا بين أَهل وأُسرة وعائلة وأَولادٍ وزوغةِ عيدٍ تَليها زوغةُ عيد، أَيام كانوا همُ العيد ويوزّعون على مَن حولَـهم العيد، وأَرجع من الأَمس فأَراهم اليوم غائبين في وجوهٍ غائبةٍ ذاهلةٍ لا من يفتح بابًا عليهم بهديةٍ أَو بقْبلة، وأَسمع سكوتهم الجارح أَبلغَ من شكوى أَو أَنين، فيجرحُ سكوتُهم فضاءَ العيد الغامر وطَلَّةَ العام الذي يطوي بهم سنةً على سنواتٍ لهم مطويةٍ من زمان.

         قبل أَيام قرأْتُ في كتابٍ عن الأُم تريزا قولها: “أَوجع الفقر ليس الحرمانَ من المال بل الحرمانُ من الحب في أَعماق الوحدة”. وإِنها كذلك هذه الوحدةُ القاسيةُ في صحراء الذات، لا بسمةٌ تُضمّد ذهولًا، لا وجهٌ يُنقذ من غُربة، لا صوتٌ يُوقِظ نبضةَ الحنان، لا كلمةٌ تُعزّي من ضَياع، لا لـمسةٌ تَـمسح دمعةً حافية في عين غافية، ويَـمضي العمر، يَـمضي مالـحًا خارجَ الحب وخارجَ الحنان.

         بـِــهـؤلاء أُفكّر اليوم، بالـمتروكين هنا في مأْوى، هناك في مَصَحّ، هنالك في مستشفى غريب أَو سجن رهيب، وهم يَــرَون العيد يَـمُر خارج الشباك العالي، ينادونَه فلا يَسمع، ويظلُّ مُكملًا ضوءَه يَشِعُّ على الآخرين، تاركًا مَن في وحدتهم يقاسون صَدمة الآخرين.

         أُفكّر بهم، بي، بنا، ونحن مُقبلون يومًا على هذه الوحدة القاسية، العزلة الداخلية القاسية، فمَن يدري إِلى ما نحن معرَّضون حين ندخل في شيخوخة العمر وشيخوخة العزلة، حين يَبتعد مِن حولنا مَن هُمُ اليومَ حولَنا بهجةُ العيد وصيحةُ الفرح في استقبال العام الجديد؟

         المحرومون مِن الحنان محرومون مِن العمر. المحرومون مِن الحب محرومون مِن الحياة.

         منسيُّون، متروكون، منفيُّون في ضجيجٍ أَخرس يَجلُد الذاكرة بغفلة العمر، ويُحرق وراءَه جسور الذاكرة فلا رُجعى إِلى الحياة.

         بِـهؤُلاء أُفكر اليوم عشية العام الجديد.

         أُفكّر بهم، وأَعي نعمةَ أَن نكون مغمورين بالحب، يُنَــقِّـط علينا لونَ السعادة، مِن كلمة نسمعُها، مِن كلمة نقرأُها، من لَـمْسةٍ نَنْعَمُ بها على جبيننا أَو خدِّنا أَو تأْخذُ بِـيَدِنا فتأْخذنا إِلى فردوس الحب الذي هو الجنَّة الحقيقيةُ على الأَرض وما بعدَ الأَرض.

         أُفكّر بهم، وتُحرقني دمعةٌ خرساءُ تَكْرُج حافيةً على خَــدٍّ جَــعَّـدَهُ العمر، لتَستقرَّ في كَفِّ يَــدٍ تَنتظر مصافحةً في العيد لَن تأْتي.

         أَيها الحب، أَيها النعمةُ التي تغلُب الشيخوخة وتقهَر العمر وتُزهّر السنوات، أَفِضْ حنانَكَ على المنسيِّين في الأَرض، إِنّ لهم ملكوتًا للسعادة لن يذوقوه إِلَّا إِذا مَررتَ أَنتَ، أَيها الحب، على وحدتهم فَلَوَّنْتَها ببسمةِ الرضا، ولا حُبّ إِلَّا في الرضا، ولا سعادَة إِلَّا في الحنان، ولا طعمَ لهذا العمر، كلِّ هذا العمر، إِلَّا بِــيَــدٍ تَـمتدُّ إِلى وجهٍ تَشِعُّ عيناهُ بالفرح عند سماعِ كلمة… “أُحِــبُّـك”.                                                                                                                               

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib