للسنة الجديدة كي نَستقبلَـها بِــــوَردَة الحُب
ساعات قليلة بعد، وتنطفئُ شمعتُها الأَخيرة. فما الذي يَـجدر في البقية الباقية منها حتى انتصاف ليل الغد؟
في العادة، قبل إِطلالة الصفحة الأُولى من السنة الجديدة، أَن نُــقَــلِّـب صفحات السنة التي تَغرُب، مستعيدين ما فيها، كي تُشْرقَ السنةُ الجديدة على بَـياض النيّة ونَصاعة العزم ونَسْـج الحلم المتوهّج في البال.
هذه الساعاتُ الأَخيرة فَـلْـنَـصْـرفْـها في الاستذكار والاستعبار كي نسحب من أَوراق هذه السنة ما يذكِّرنا بما كان من أَحداث عاينَّاها وأَحاديث سمعناها، وَلْـنَـتَـوقَّـف أَمام مَشاهدَ تَوالت علينا أَو مُشاهداتٍ عشناها في أَنفاق السنة من جوع وحروب ومآسٍ وفواجعَ وتجاوزاتٍ وانتهاكاتٍ وحوادثَ بعضُها من الطبيعة الغاضبة والآخَر من الإِنسان القايــيــنيّ، وَلْـــنُـــوارِ الماضي في مَغاور النسيان المظلمة، ولْــنُـــوَسِّـــع في ذاكرتنا واحاتٍ رحيبةً ملوّنةً بثلاث فضائل: أَن نَستقبل ونَقبل ونَقتبل. الأُولى لاستقبال السنة الجديدة بفرحٍ بِـكْر، الثانية لقبول العمر الـمُتواصل بفرح الحياة، والثالثة لاقتبال الآتي لا بأَملٍ قد ينكسر بل بِــرجاءٍ لا يعرف الانكسار.
في رواية “العجوز الذي كان يقرأُ روايات الحب” للكاتب التشيليّ لويس سـيــﭙــولـﭭـيـدا (Sepulveda) مـرَّ أَنطونيا خوسيه بوليـﭭـار في أَزماتٍ ومآزقَ غريبةٍ وصعبة أَرهَقَتْهُ فقرَّر أَخيرًا أَلَّا يعود يفكِّر فيها، وأَن يَفتح أَعماق ذاكرته على وَسَاعتها كي يَـملأَها نسماتِ سعادةٍ وانشغالاتِ حُبٍ أَبعدَ خُلودًا من الزمان.
وهذا أَفضَلُ علاج مُسْبق للهموم والقلق: أَن نفتح ذاكرتَنا للمستقبل، بـرصانة حكمة العقل وضبْط جُموح العاطفة، على هَدْي ما حدَّد اليُونان الشعرَ بأَنه “عَرَبة يَجرُّها حصانان: المخيّلة والعاطفة، ويَسُوسها حُوذيٌّ حكيمٌ هو العقل”.
العقل إِذًا هو الملجأ، نغذّيه بالتجربة، بالاختبار، بِوعْي أَلَّا نُكرّر الخطأَ ذاته، بالانسياق إِلى صداقة الكتاب مصدرًا للمعرفة والثقافة والغنى النفسي والمنطقي، منه ننطلق إِلى حرية الفكر الذي عندئذٍ يأْتي من الغد الموعود ليساعد الحاضر المولود.
قلتُ إِن العقْل مصدرُ المعرفة لأَن الأَساس أَن “نعرف” في كل منعطف من العمر. أَن نعرف ماذا نَقرأ، مَن نُجانب، من نُحاذر، كيف نسلك وأَين وإِلى أَين، حتى يكون لنا الحاضر مَـمـرًّا آمنًا إِلى المستقبل الأَمين.
بهذا الانعطاف إِلى أَوراق هذه السنة، وما فيها ومَن فيها، تــتَّضح أَمامنا الدَرب فنُواصلها في السنة الجديدة بهذه الأَفكار الاستعادية، ونُطرِّزها بــوَردة الحب، الحبّ الذي وحدَهُ نبعُ القوة التي لا تقهرها قوة طبيعية ولا بشرية، ووحده نبعُ الحياة التي إِذا عرفْـنا كيف نوسّع فيها للحب نبْلغ به مراتب لا يعرف نعمتَها إِلَّا من يَذوقُها.
الـحُب !! له المجد. له الآتي. له الانعطاء الكامل. له معنى السعادة.
ومَن يفتتح سنتَه الجديدة بِاسْم الحب، تَفْتح له الحياة بابَـها الأَوسع في كل شهقة جديدة من السنة الجديدة.
هـنـري زغـيـب