… وللشيخُوخة أَيضًا ربــيــعُ سَــنَــواتها
يتوغَّل الإِنسانُ في العمر، عامًا بعد عامٍ، عابرًا ربيعًا فخريفًا فشتاءَ حياة، حتى إِذا اقتربت سنتُه الحالية من غُروبها، شعَر بالغياب مُقْبلًا إِليه، وأَخذ يَقلق كلما أَحسَّ بِأَلَـمٍ، أَو اعتراهُ وهْنٌ، أَو تراءَت في وجهه ثَنايا تجاعيد.
هذه صورةٌ نَـمطيةٌ يُـــلِــحُّ تَـجاوُزُها، بثباتٍ وقناعة، لعبور سنوات العُمر الأَخيرة على جسر الفرَح، في نعمة الحب الذي لا قبله نعمة ولا بعده، ليكون ربيعًا مزهرًا خريفُ العمر.
الشيخوخةُ ليست اقترابَ النهاية – كما يرى المتشائمون الفارغون من كل رجاء – بل هي رصانةُ الحكمة والخبرة والتجربة والنضج الفائق الفوائد، يذوقها الإِنسان نتيجةَ ما اكتسَب من بستان العمر قطوفًا يانعة تقيه رعونة العثرات. هنا لذَّةُ العمر خريفًا وشتاءً في نضارة الأَمل الذي لا عُمرَ له ولا قُعود، ما يُجنِّبُ النِظرة السلبية إِلى الشيخوخة ويحوّلُها نِظرة إِيجابية فرديًّا وجماعيًّا.
في هذا السياق لَفَـتَـني معرضٌ استعاديٌّ تَشهده ﭬــيـيـنَّا حاليًّا (حتى 4 آذار 2018) في قصر بِـلْــﭭِـدِيـر عنوانُه “رَيَـعَان العمر” يضُمُّ 188 لوحةً لكبارٍ مكرَّسين وآخَرين معاصرين، في موضوع واحد: “الشيخوخة”.
رسالةُ المعرض أَن التقدُّم في السن يناقضُ نمطيةَ أَن سنوات العمر الأَخيرة هي الأَكثر وهنًا وجفافًا وإِنتاجيّة. واللوحات المعروضة توضح لدى الـمُعَمِّرين هذه النِظرة إِلى ريَعان العمر على ريشة رسامين اختبروها، بينهم غوستاف كْلِمْت، إِدغار دوغا، ﭘـابلو ﭘـيكاسو، تولوز لوتريك وآخرون، تناولوا من الشيخوخة وجهَها الـمُشرق فرسموا وَجوهَ معمِّرين ركَّزوا فيها على ملامحهم الربيعية حتى بين التجاعيد: هنا رسام يعنو على لوحته في فرح، هنا سيدة تحوك كنزة من الصوف، هنا أُخرى جالسة على كرسي صيفي عند منبَسط من الرمل على الشاطئ أَمام البحر البعيد، هنا جَدَّةٌ يهشُّ وجهُها بالأَمل، … إِلى لوحاتٍ أُخرى يـظهَر فيها أَصحاب الوجوه يعيشون حياتهم خارجَ احتساب العمر في سنواتهم، ويبدو عليهم أَنهم يتذوّقون سنَّهم بانفتاحٍ ونَضارةٍ وقوّةٍ وأَمل، في قناعةِ أَنّ العمر ليس تراكُمَ أَشهر وسنوات، بل هو تَنامٍ متواصلٌ ينضُج مع الأَيام نحو مرحلةٍ يجعلُها زهريةً كلُّ مَن يرى السنواتِ بستانَ فرح.
بهذه الدلالة السوسيولوجية على الشيخوخة الفتيّة يُطل هذا الـمعرض في مكانٍ باروكيّ عريق من القرن الثامن عشر هو الآخَرُ لا يشيخ: قصر بِـلْــﭭِـديـر لأَمير ساﭬْـوَى فرنسْوى أُوجين (1663-1736)، وها هو يتجدَّد مع هذا المعرض الـمُشرقِ بدلالةِ أَن الحياة ليست في العمر الـمـتـثـاقل بل في التفكير الـمتـفائل، كما في تلك اللوحات التي تَـخُطُّ أَن “رَيَـــعَــان العمر” لا حدودَ زمنيةً ولا مكانيةً لِـــــــوَسَاعته.
هكذا يتوغّل العمر رَيَعانًا دائمًا في عافيةٍ تَــقهر تراكُمَ السنوات بنضارة الأَمل التي لا تحصرها سنوات.
هـنـري زغـيـب