نِعمتــان للإِنسان: الوالدةُ الأُمّ واللغةُ الأُمّ (*)
يَهجُرُونها وهي تحتضنُهم. يهاجرون منها إِلى هُويات أُخرى، وهي التي تعطيهم الـهُوية.
يَـخُونُونها تَـبَاهيًا بسواها،خرى أخرى ولا يدرون أَنهم باقون عند باب السوى، لا أُمُّه ترضاهم أَولادها، ولا هم يرضَون العودة إِلى أُمِّهم التي خرجوا منها، وعن جذورهم فيها، شاردين إِلى موانئَ أُخرى، فإِذا هُم في واحة وهمية لا هم يُتقنون الانتماء إِليها ولا هي ترضاهم في كيانها.
ما أَقسى أَن يَطعن الأَولاد أُمَّهم عوض أَن يحافظوا عليها. يَــئِـدُونها في جهلهم، يتركونها تحتضر يومًا بعد يوم حتى الامِّـحاء، ويتركونها تواجه مصيرها الهائل الـمُرعب في موت مأْساويّ وحيدةً، لا أَطفال يفتقدونَها ولا أَبناء يتذكَّرونها ولا بنات يبكين عليها، فتحمل تابوتها وتمشي وحدها إِلى ضريحها.
لا يقدّرون جوهرها، ويُشيحون عنها بقشور مستعارة. لا يعرفون كيانها فيتشبَّهون بكيانات الآخرين. يُهملُونها بأَنانيتهم وسعيهم إِلى مجهولٍ بَـرّاقٍ آنِـيّ، ولا يدرون أَن هذا المجهول سيحملها إِلى النعش.
لا يعرفون أَنها هي أَيضًا تموت من المجاعة حين يترك ثديَــيْها مَن رضعوا منهما ورمَوهما بالعقوق، وما إِن انتصبوا واقفين حتى استداروا صوبها وتعامَلوا معها بوحشيّة الرجْم واللطْم واللكْم، بعُنفٍ لا يُسدّده إِلى خصمه عدوٌّ مُـجرم.
لا يعرفون أَن لديها الكثيرَ بعدُ تعطيهم. اقتلعوا جذورَها وعقلَها ومعايــيرَها وقواعدَها وطعنُوها في الظهر والعقل والتاريخ، بكل حقد وكراهية، وحمَّلوها أَوزار الآخرين كي يبرّروا فعلتَهم، واتهمُوها بذنوب الآخرين كي يقتنعوا بصوابية إِقدامهم على اغتيالها.
لا يعرفون أَن موتها لن تتقمَّص منه ولادةٌ جديدةٌ يتوهّمونها آتية لكنهم سيعيشون بها من دون قواعد ولا معايــير كانت ضابطةً منضبطةً لدى أُمهم التي قتلُوها باستهتارهم وقلّة وفائهم، وعوض الخوف من الفراغ راحوا يـبحثون عن فراغ آخر يسقطون في قعره الرهيب لا منقذَ لهم منه ولا مجيب.
لا يعرفون أَن المكانة هي في المكان، فإِذا ضاع منهم المكان ضاعَت بوصلةُ الوُجُهات، وضاعت معها هوية ثقافية تَــسِــمُ شعبًا بأَجياله وتاريخه وحضاراته.
لا يعرفون أَنها الأُم التي إِذا استبدلوا بها أُمًّا أَخرى انتهوا أَيتامًا، واليتيم لن تعوِّض له الأُمومة أَيةُ وسيلة أُخرى يتوهَّم أَنه بها يُـحْـيــي الأُمومة المفقودة.
للإِنسان نعمتان للحضن الأَمين: والدتُه التي أَنْـجبَـتْـه للحياة ثم تموت، ولغتُه التي يُنجِبُ لها حياةً تبقى في أَبنائه وأَحفاده. ومَن يهمل لغتَه الأُمّ * كَمَن يُهملُ أُمَّه ويتركُها تَـمُوت.
وما أَكثر الشعوب التي انقرضَت من التاريخ حين تركَت لغتها الأُمّ تَـموتُ من الهجران.
*) 18 كانون الأَوّل: “اليوم العالَـميّ للُّغة العربية” – وعن تقريــرٍ لــ”الأُونسكو” أَنّ في العالَـم لغةً تَـمُـوت كل 15 يومًا.
هـنـري زغـيـب