لافتًا جدًّا كان حُضُور اثنين من كبار قادة أُوروﭘـا افتتاحَ معرض الكتاب السنوي الدولي في فرَنْكفورت: المستشارة الأَلمانية أَنْـجِلا مُركِل ممثلةً أَلْـمانيا الـمُستضيفةَ المعرض، والرئيس الفرنسي إِيمانويل ماكرون ممثلًا فرنسا ضيفةَ المعرض هذا العام.
قلتُ إِن حضورهما كان “لافتًا”، لكنه بالنسبة للرئيسَين وشعبَيهما عاديٌّ جدًّا، برغم ما لديهما من ملفاتٍ راهنة ضاغطة. مع ذلك يجتمعان معًا مُفتَتِحَيْن أَهمَّ محطة فكرية ثقافية في أُوروﭘــا، بدءًا بوُقوفهما أَمام الصفحة الأُولى من إِعلان شرعة حقوق الإِنسان مطبوعةً على نسخة عن أَول آلة طباعة صمَّمها الأَلماني جوهانس غوتنْبِرغ سنة 1454، وعلَّقت مُركل على أَهمية الكلمة ونَيلها مطبوعة.
أَمام هذه الظاهرة الثقافية الفكرية الأَدبية بين رئيسين، لم يعُد مستغْرَبًا أَن تَلقى مُركِل دَعم شعبها لولايةٍ رابعة، وأَن يلقى ماكرون دعم شعبه بنسبةِ تصويت عاليةٍ لبلوغ الإِليزيه.
هكذا يُـخطِّط الكبارُ للأَوطانٍ الكبرى، لا بتجيــيشٍ طائفيّ، ولا بشَحْنٍ شَعْبَوِيّ، ولا بكيدياتٍ سياسية، ولا بـــ”تُوكْ شُوَات” تلفزيونية تستَـثـيرُ غرائزَ الناس سياسيًّا ودينيًّا وطائفيًّا ومذهبيًّا ومناطقيًّا، ولا بِـجَلساتٍ نيابيةٍ تلـﭭـزيونية تنقلب مهرجانًا انتخابيًّا وكرنفالًا هزليًّا يتسابق فيه بعض النوّاب على التشدُّق بإِطالةِ الكلام وإِعلاءِ نبرة الصوت وصَوْغِ المراجل العنترية الاتهامية الاستقطابية إِرضاءً لشعبيةٍ رخيصةٍ في بيوت الناس، وتكون النتيجةُ إِقرار موازنةٍ تسوَوِيَّة مُـحاصَصَاتية بدون قَطْع حساب، لا جاءَت بِـجَديدٍ ولا خَفَّفت الضرائب عن صُداع المواطنين.
هناك: أَنجِلا مُركِل تُمسك الاتحاد الأُوروﭘـي من صُلبه، وتتعاطى مع أَصعب الملفّات السياسية والبيئية والأَمنية والنزوحية، وتُعلي شأْنَ اقتصادِ بلادها وتهتمُّ بأَمان بلادها وأَمن شعبها، مُبْعِدةً عنه كل خطر لجوئي أَو ديموغرافـيّ، وتبني شعبيَّتَها على ما تؤَمّنه لرفاه شعبها.
وهناك: إِيمانويل ماكرون، أَصغر رئيس جمهورية أُوروﭘــي، يدير البلاد بحكمة الشيوخ مُـحاطًا بِـمستشارين يُؤَدُّون له ما يَنفعُ الشعبَ من دون شَعْبَوِيّاتٍ كاريكاتوريةٍ يَتَعَمَّدُها عندنا مَن ليس لديه ما يقدِّمه للشعب غيرُ قانونِ انتخابٍ معقَّدٍ حَــزُّوريّ ما إِن صَدَرَ حتى راح السياسيُّون يَشْرَحُونه ويُشَرِّحونه متلَعْثِمين ضائعين مضيَّعين مضيِّعين، لا هُم فاهمون ما صوَّتوا عليه ولا الشعبُ فاهِمٌ هذا القانونَ الأَخطَبوطيَّ الـمُتَلَفْلِفَ الـمختلطَ فيه الخيطُ الأَسود بالخيط الأَبيض، حتى أَنّ وزير الداخلية الـمَعنيَّ الأَول بالانتخابات يُعلنُ أَنه “قانونٌ غريبٌ عجيب”.
هناكَ رئيسَا دولتَين أُوروبيَّتَين كبيرَتَين يفتـتحان معرض كتابٍ أَمام صالة حاشدة، وهنا – في صالة شبْه خاوية – نوابٌ يناقشون موازَنةً مصروفةً سلَفًا، متسابقِين إِلى الكاميرا قبل المنبر، غيرَ منزعجِين من فراغ الصالة لأَن المقصود بعنتريّاتهم هو جمهُورهم “الحبيب” في البيوت لا زملاؤُهم في المقاعد النيابية أَو الحكومية.
هناك رئيسان يُثَبِّتان شعبيَّتَهما بأَعمالهما وإِنجازاتهما، وهنا سياسيون يسعَون إِلى شعبيتهم بالصوت العالي وإِبراز عيُوب الآخَرين وادعاءِ دَور لم يَعُد يُقْنِعُ حتى الشعب الذي انتخبَهم مرةً وما زالوا يُـجدِّدون تلقائيًّا ولايتَهم ويَـحكُمون بِاسمِهِ من دون أَيّ تفويضٍ جديد.
هناك معرضٌ ثقافـيٌّ للكتاب، وهنا استعراضٌ منبري تلفزيوني.
هناك مَن يُعلن “لا أُوروﭘـا بدون ثقافة”، وهنا مَن ينعى بأَن “لا وطنَ بدون وُجُودي”.
وشتّانَ، في بناء مستقبل الدول، ما بين العملِ التَـنْـمَـويّ والكلامِ التَـعْـمَـوِيّ.
هـنـري زغـيـب