الترجـمة “خيانة“ إِلَّا إِذا تَــوَلَّاها مُـبْـدِع
لفَتَني، عند تَلَقّي كازوو إِيشيغورو نبأَ فوزه بـ”نوبل الأَدب” 2017، تعبيرُه: “أُريد أَن تظلَّ كلماتي حيَّةً عند الترجمة”. ويشرح هاجسَه، وهو الياباني الأَصل: “حين أَقرأُ كتابًا يابانيًّا مترجَـمًا إِلى لغة أُخرى أَشعر بضبابية الكلمات، إِلَّا في كتُب هاروكي موراكامي الذي أَفهم في نصوصه الأَجواءَ اليابانية وأَشعر بانتمائي إِليها، ذلك أَنه فعلًا كاتبٌ عالَـميّ”.
هذا الكلام القلِق، في الدلالة على الترجمة الأَمينة والدقّة في نقل النص الأَصلي، يأْخذُني إِلى دور الترجمة في التعبير عن فكْر الكاتب والإِخلاص في ترجمته، لا في الاكتفاء بنقْل لغته الأَصلية حرفيًّا إِلى لغة أُخرى. هذه الأَخيرة ليست وحدَها الوسيلةَ الأَنصع لترجمة اللغة الأُولى (الأَساسية) إِلى القارئِ الجديد، بل نَـقْلُ ثقافة المؤَلِّف وأَدبه وخلفيّاته الفكرية هو الذي يجعل النص الـمترجَـم أَمينًا لثقافة صاحبه وأَدبه وخلفياته الفكرية.
اللغة وسيلة؟ صحيح. لكنها مدخل. مجردُ مدخل إِلى عالم المؤَلّف، حتى يكون لقارئِ نصّه مترجَمًا أَن يكتشف النبض الذي به وضع كتابَه في لغته الأُمّ، جامعًا فيه ثقافتَه ومشاعرَه وأَمزجتَه وأَفكارَه وعقليّته، وقولبَها في عباراته الخاصة وطريقته المميزة وأُسلوبه المتفرِّد، وهذه جميعها لا تُـمكن ترجمتُها بـمجرد نقلِ النص لغويًّا من اللغة الأُم نَـحو اللغة المترجَم إِليها، لأَن هذا يكون عملًا آليًّا مسطَّحًا لا نبض فيه، وهنا يصح القول إِن “الترجمة خيانة”.
وما قاله إِيشيغورو عن العالَـمية صحيح كذلك. فمجرّد ترجمة المؤَلَّفات إِلى لغةٍ أَو إِلى لغاتٍ أُخرى، لا يكفي لـجعْل مؤَلِّفها “عالَـميًا”. شرطُ العالمية أَن يكون هذا المؤَلِّف وصَلَ مترجَـمًا إِلى قرائه في لغاتهم الأُم بأَقرب ما يكون إِلى المناخ الأَصليّ الذي استلَّ منه المؤلّف أُسلوبَه الـحامل فكرَه بكلماتٍ تعكس الفكْر والأُسلوب معًا، وإِلَّا تكون اللغة الجديدة مجرَّدَ نسخةٍ باهتةٍ عن تـمثالٍ صَـبَّ فيه نَـحّاتُه كل براعته وخبرته وأَعصابه ونبْضه، فجاءت تلغيها جميعَها نسخةٌ لتمثاله باردةٌ غيرُ أَمينة.
الترجمة الحقيقية هي وضْعُ “تأْليفٍ” جديدٍ لنصِّ الـمؤَلِّف في لغةٍ جديدةٍ يصوغُها مترجِمٌ يكون قبلذاك بارعًا في لُغته الأُمّ وتاليًا بارعًا في تبيان جَــوّ المؤَلِّف قبل نقْل نصه. أَما “الشطارة” في اللغتَين: لغة الأَصل ولغة الترجمة، فسذاجةٌ يتحجّج بها المترجمون لينقلوا نصًّا لن ينقلوا منه سوى هيكلِه العظمي (اللغوي) لا روحَه التي، إِن ينقلها المترجِم، يمكن أَن يوصِل بها المؤَلّف إِلى العالَـمية ولغات الشعوب الأُخرى في العالم.
الترجمة عملٌ إِبداعيٌّ صعب، يَنقُل نبض القلب لا عدَدَ خطواتِ الجسد. والمترجِمُ الـمبدع يَنقل براعةَ المؤَلِّفَ من لغته الأُم إِلى “لغةٍ أُمٍّ ثانية” توصلُه إِلى أَبناءِ اللغتَين نصًّا نضِرًا أَمينًا ربما تجعل صاحبَه عندها جديرًا بــ”نوبل الأَدَب”.
هـنـري زغـيـب