دير سانتا ماريَّـا في مونْسيرَّاتْ (MontSerrat) مبنى بِــنِــدِكتـيٌّ رابضٌ عند حضن جبل مونسيـرَّاتْ في مقاطعة كاتالونيا الإِسـﭙـانية (50 كلم عن برشلونا). وهو منذ القرون الوسطى وُجهةُ حجّاجٍ وخَلوةُ نُسك وصلاة وتأَمُّل. بعضُ شُهرتِه احتواءُ مكتبته على “الكتاب القُرمُزيّ”، وفيه مخطوطاتُ أَناشيدَ دينيةٍ ودُنيويةٍ مع نوطاتها الموسيقية، يرقى تدوينهُ إِلى مطلع القرن الخامس عشر. كان يضمُّ 350 صفحة لم يبقَ منها سوى 137 بسبب حريق الدير إِبان حرب الاستقلال الإِسـﭙـانية سنة 1811.
وفي مرويّات الدير أَنّ رؤْيا أُعجوبية حلَّت سنة 880 على رعاةٍ قادتْهم إِلى مغارة وجدوا فيها صورة للعذراء، لم يستطيعوا نقْلَها فأَنشأُوا في المغارة كنيسة توسّعَت مع الوقت إِلى ديرٍ راح المؤْمنون يأْوون إِليه، ويرتّلون مع رهبانه أَناشيدَ تمازجَت فيها الأَعراف والتقاليد لكنّها بقيت في حناجر المصلّين حتى قام مَن دَوّنها في “الكتاب القُرمُزي”.
أَهميةُ هذا الكتاب في مضمونٍ يَشي بموروث شعبيّ غنيٍّ في نصوص تلك الأَناشيد وميلودياها، ويُــثبت أَن الإِرث الجماعي، عند تدوينه، لا يقضي عليه مرورُ الزمن، بعكس طفرات فردية عابرةٍ تولَد وتفنى في زمنها الوجيز.
يقودني هذا الأَمر إِلى موروثاتٍ عندنا شعبية موسيقية وصلتْـنا بقوالبها وأَنماطها تَوَاتُرًا من ذاكرة الأَسلاف، تعكس حالة اجتماعية تحمل العادات والتقاليد والروايات والـحَكايا والمرويّات، مرة من الحكواتي ومرةً من الراوي، ومراتٍ من حَفَظَةٍ يتناقلونها جيلًا عن جيل، لكنها في حاجة إِلى مَن يدوّن موسيقاها حتى تتواصل في كل جيلٍ عابرةً أَصواتَ الزمن الحاضر، ناهدةً إِلى الزمن الآتي.
تراثُنا الشعبي الموسيقي والمغنّى يتداخل فيه الدينيّ والدنيويّ، معظَمُهُ غير مدوَّن بل متوارَثٌ عن آباء وجُدود وَجَدوا فيه هويتهم الاجتماعية، فرديّها والجماعيّ، وهنا قدرة التراث الشفوي على التعبير عن أَحوال الجماعة. وهو سهلُ الوصول إِلى المتلقي، وتاليًا سهلُ الحفظ والترداد والنقل من حافظٍ إِلى سامع، لكن جُلَّ هذا الموروث الموسيقي مبعثَر، يبلُغُنا على أَنه “تأْليف” فيما هو تراث يجب جـمْعه وتدوينه فتقديمه، أُسوةً بالزجل، إِلى منظمة الأُونسكو تراثًا لبنانيًا موسيقيًا شعبيًّا غير مادي.
إِنّ في نصوص “الكتاب القُرمُزي” ما يتخطّى التدوين التسجيلي إِلى كشف طقوس الناس عصرئذٍ عبر ميلوديا الأَناشيد، ومقاصدهم الحياتية عبر كلمات أَناشيد هي في ذاتها طقسية وسوسيولوجية معًا، وجماعيةٌ في دلالاتها العامة، وإِن تكن مجهولة المؤَلف أَو المدوّنين، فهي نتاج جماعة وبيئة وتحمل مضامين تينك الجماعة والبيئة في عصرهما.
يبقى أَنّ في الموروثات القديمة عالَـمًا غنيًّا تجدر العودة إِليه عند كل منعطفٍ في عصر، كي تكونَ للعصر جُذورٌ في المرويات، يضمُّها للتاريخ كتابٌ “قُرمُزيُّ” الذاكرة والمضمون المدوّن، كذاك المحفوظ سعيدًا في دير مونسيرَّاتْ.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib