أَبرزُ ما قرأْتُ هذا الأُسبوع: كتاب “أَجمل مهنة في العالم”، مذكّرات الكاتبة والناشِرة الفرنسية فرنسواز ﭬــيرني (Verny: 1928- 2004) وفيه تعابير لها تُشَرِّف النشر والناشر. فإِبّان مسؤُولياتها في دور نشر كبرى (غراسيه، غاليمار، فلاماريون) تعاطت مع كبار المكرّسين: فرنسوا مورياك، أَندريه مالرو، لويس آراغون، سيمونّ دوبوﭬـوار، ودعَمَت مَن سَطَعوا لاحقًا في عالم الأَدب: فرنسواز ساغان، فرنسواز جوريس، برنار هنري ليـﭭـي، وترأَّسَت لجان جوائز أَدبية، وتمرّسَت في إِطلاق الكتب ومؤَلِّفيها بعمليات باهرة تملك أَسرار الإِنجاح. واختصرَت في كتابها مسيرة 25 سنة في مهنة النشر التي زاولتْها في شغفٍ وإِيـمانٍ وحزم، خاتمةً بأَنّ “النشر أَجملُ مهنة في العالم” وبأَنها “آخر ملجإٍ للأَحلام”.
أَخذَني هذا الكلامُ منها إِلى كلامٍ فيها جَعَلَها فعلًا “سيّدةَ الوسَط الأَدبي وكواليسِه في عصرها” و”صانعةَ المؤَلِّفين” و”مكتشِفَةَ المواهب” و”داعمةَ الناشئين المبدعين ومرشِدةَ مَن لديهم تعثُّرٌ في موهبتهم”، وذهبَ بعضُهم إِلى تسميتها “كاهنةَ معابد النشر” و”ديـﭭـا الأُدباء”، لِـما كانت عليه من رهبةٍ وسطوةٍ في الأَوساط الثقافية والأَدبية الفرنسية التي كرَّسَـتْها “ذاتَ الكلمة الفصل”، و”رافعةَ مهنة النشر إِلى أَعلى وأَسمى وأَشرف مستوياتها”.
هذه الهالةُ للناشر يَستحقُّها حين هو فعلًا مؤَسسُ نهضةٍ أَدبيةٍ بأَهمّية منشوراته التي يكتشف لها مبدعين وموهوبين، فلا يعود “تاجر كتُب” بل “مُنشِئَ مؤَلّفات” وخبيرًا ممهِّدًا طريقَ أَدباء يُطلقهم إِلى الشهرة فيَغنى بهم ويُغْنُون بفضله قرّاءَهم حتى ينهضَ العصرُ الأَدبي بسطوعِ كُتّابٍ ما كانت لهم حظوظُ الوصول لولا ناشروهم.
الناشر إِذًا ليس مجرَّد “مُسَوِّق” كتُب، ولا “طَـبَّاعًا” يُشْرف على إِخراجها، بل هو حاملُ الشعلة وناقِـلُها من المؤَلّف إِلى القارئ بِـما يوصِل الكاتبَ إِلى قارئه كأَن الناشر يُهْدي بالكتابِ القارئَ كنزًا، لا بـأَنه “ساعي بريد” أَو “مدير العمليات” بين المؤَلّف وجمهوره.
دَورُ الناشر لا يتقزَّم إِلى “طبع” الكتاب فالاتّكال على شهرة المؤَلف وحفلات توقيع يدعو إِليها الكاتبُ أَصدقاءَه، ولا على عرض أَكداس المؤَلّفات في معارض الكتُب مصفوفةً على الرفوف، بل الأَهمُّ وضْعُ خارطة تسويق ذكية ينشَط لها الناشر قبل الكاتب، ويعمَل لكل كتابٍ ومؤَلّفٍ على حِدَة كأَنه لم ينشُر إِلَّاه.
المؤَلف عازف، والناشر قائدُ الأُوركسترا. الناشر مُرشِد الكاتب. ينتهي عمل المؤَلّف حين يُسَلِّم مخطوطتَه إِلى الناشر، ويـبدأُ عملُ الناشر حين ينتهي طبعُ الكتاب فــ”يَــتَــبَــنّى” الكتابَ والكاتبَ معًا: “يحتضن” النص فيُبرزُه بالحلَّة الأَبهى، و”يحتضن” صاحب النص فيُطلقُ كتابَهُ بوسائلَ ووسائطَ عصريةٍ يكون هيَّأَها قبل “ولادة” الكتاب الجديد، ويتَّبع المؤَلف تدابير يراها الناشر صائبةً وضروريَّـةً لنجاح الكاتب وإِنجاح الكتاب.
هكذا يكون الناشر، لا المؤَلِّف فقط، صاحبَ الفضل الرئيس في نهضة الحركة الأَدبية وفي سُطوع نجومها.