من القاهرة أَنَّ العاصمة المصرية تَحتفل بمرور١٥٠ سنة على إِنشاء “القاهرة الخديوية”، وتُواصل ورشَةَ ترميمٍ وتطويرٍ تُحافظ على تراث المدينة المعماري العريق، كما كان الخديوي اسماعيل نفّذَه بعد زيارتِه فرنسا، وطلبِه من نابوليون الثالث الاستعانة بمصمّم باريس البارون جورج أُوجين هوسمان ليأْتي إِلى مصر، فتمَّ طلبُهُ وجاء هوسمان مع فريق فنانين ومعماريين وصمَّم “القاهرة الخديوية”.
ومن بيروت أَنَّ بلدية العاصمة اللبنانية وقَّعَت بروتوكول تَعاوُن مع فاليري بِكْرِسّ (Pécresse رئيسة منطقة “إِيل دو فرانس”) لتنفيذ مشاريعَ، منها: إِضاءةُ شوارع العاصمة، تفعيلُ المشروع الأَخضر، إِعادةُ تأْهيل حرش بيروت، ووضْعُ مخطَّط مفصّل لأَحياء العاصمة.
إِذًا هي ذي باريس تحضُر من جديد إِلى ماضي القاهرة وحاضر بيروت، ولكن…
في القاهرة، يتواصل منذ 2009 مشروعُ وزارة الثقافة المصرية لترميم “القاهرة الخديوية” وتطويرِها تنسيقًا مع محافظة القاهرة، لـ”إِعادة مظهر العاصمة المعماري”. ومن إِجماليّ ٥٠٠ عقار في المدينة، تَـمَّ حتى اليوم ترميم ٢٠٠ عقار بكلفة ١٢٠ مليون جنيه، مَـوَّلَها اتحادُ المصارف وعددٌ كبيرٌ من منظَّمات المجتمع المدني. وصرَّحت مديرةُ المشروع الدكتورة سهير حَـوّاس (أُستاذةُ العمارة والتصميم المعماري في جامعة القاهرة) بأَنّ “القاهرة الخديوية هي قلبُ القاهرة، وثروةٌ معماريةٌ فريدةٌ في العالم، بترميمها تبقى المباني حيَّةً نابضةً لا تَهرَم ولا تَشيخ، بل تتجدَّد حياتُها وتُؤَدّي باستمرارٍ وظيفتَها العمرانية، وهذه هي الصيانة الوقائية حافظةُ الإِرث الغابر للأَجيال المقبلة”.
وفي بيروت، متروكَةٌ لقدَرها منذ سنواتٍ مالحةٍ مبانٍ تراثيةٌ رائعةٌ قديمةٌ مهدَّدٌ بعضُها بالاندثار التلقائي وبعضُها الآخَر بالهدم القصديّ. ولَـجَأَت” عاصمتُنا إِلى مَدام بِـكْرِسّ (مشكورةً!!) لتصرّح أَنها “سعيدةٌ بإِيقاظ التَعاوُن مع مدينة بيروت لأَهميّتها الكبرى”، وأَنها ستُسهم “في وضع عرض أَسعار لإِنارةِ شوارع بيروت، وتأْهيلِ طريق الشام، ووضْعِ تصاميمَ لأَحياء العاصمة، وإِعادةِ حرش صنوبر بيروت، وتدريبِ المسؤُولين والمواطنين على جعْلِه واحةً ذاتَ مواصفاتٍ صديقةِ البيئة”.
هكذا نحن إِذًا: موهوبون باستجداء “الدول المانحة” لمساعدتِنا شعبًا ووزاراتٍ ودولةً لم تَعرف بعدُ أَن “تغذّي مشاريعَها من معجنها”: ها هي قطَر تموّل ترميم المكتبة الوطنية، وها هي اليابان تموِّل تحديث قصر الأُونسكو، وها هي الصين تموِّل بناء الكونسرفاتوار،… وتَطُول لائحة “الدُوَل المانحة” الـهِبَات، ويَقتصر نشاط المجتمع المدني على “الـهَوْبَرَة” في الشوارع ، ويتقزّم دعمُ المصارف على حفلات الأَغاني في مهرجانات الصيف، بينما تَـجَنَّدَت مصارفُ مصر وجمعياتُ مجتمعِها المدني فأَمَّنَت 120 مليون جنيه لترميم عاصمتها فيبقى تراثُ مبانيها المعماري حــيَّ الحضُور والذاكرة.
تراثُ الوطن ذاكرتُه الحيّة. والوطنُ الذي يستعير الخارج للحفاظ على ذاكرتِه، تبقى ذاكرتُه رهينةَ الخارج، كمَن يُعير دماغَه للسوى، ويظلُّ واقفًا باهتًا… بلا دماغ!
هـنـري زغـيـب