شاهدتُ قبل أَيام على شاشة القناة الفرنسية الخامسة (TV5) حلقة خاصة عن إِنجازات الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران (1916-1996). توقّعتُ أَن تتضمَّن الحلقة مسيرتَه طيلة ولايتَين سُباعيّتين (1981-1995) وما شكَّل خلالهما من حكومات وما حقق من اتفاقات دولية وإِصلاحات داخلية وسائر ما يتوقَّع الناس من عهد كل رئيس. سوى أَن معظم الحلقة دار على إِنجازات ميتران الثقافية، وإِدمانِه على القراءة، واقتنائِه الدائمِ الكتبَ الجديدةَ والمجموعاتِ الكاملةَ، وحبِّهِ الأَدبَ الفرنسيَّ وأَعلامَه واللغةَ الفرنسية وتأَنُّقَه في كتابة خُطَبِه، وتأْسيسه مجلسًا أَعلى للفرنكوفونيا، وقُربِه من الأُدباء والمبدعين ودعوتِهم دوريًّا إِلى الإِليزيه ومحاورتهم، يرفده إِلى هذا الجو الإِبداعي وزيرُ الثقافة جاك لانغ الذي عيَّنه في الوزارة عشر سنوات (1981-1986 و1988-1993) ولبَّاه برفْع ميزانية وزارة الثقافة من 2،5 مليار فرنك سنة 1981 إِلى 13،8 مليار سنة 1993، وفي بال الرئيس والوزير معًا شَغَف أَندريه مالرو بتعزيز وزارة الثقافة وإِعلاء مجدها.
وعرضت الحلقة أَبرزَ إِنجازات ميتران الثقافية التي تنبّه لها منذ بداية حُكْمه: هَرَم متحف اللوﭬــر الذي أَوعز به واستغرق العمل فيه 7 سنوات ودشَّنه سنة 1989 كــ”أَكثر المواقع الثقافية استقبالًا في ﭘــاريس”، ثم المكتبة الوطنية التي “أُريدُها أَن تُصبح إِحدى أَكبر مكتبات العالم” كما طلب الرئيس، ودشَّنها باحتفال وطني سنة 1995، ثم أُوﭘــرا الباستيل التي أَمر الرئيس بإِنشائها وافتَتَحها باعتزازٍ سنة 1990 داعيًا إِليها 33 رئيس دولة في صالة تستوعب 2000 مُشاهد، ثم معهد العالم العربي الذي دشّنه الرئيس سنة 1989 “جسرَ تَقارُب ثقافي بين الشرق والغرب”، ثم قوس الدفاع الذي أَمر بإِنشائه ودشَّنه سنة 1989 في الذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية.
هكذا إِذًا: كان لفرنسا رئيسٌ مثقَّفٌ يعرف أَن مجد الرئاسة ليس في تشكيل حكومات واجتراح قانون انتخاب وإِصدار مراسيم وقوانين ينساها الناس لاحقًا، بل في إِنجازاتٍ ثقافية أَدبية وفنية راقية تجعل البلاد واحةَ سياحةٍ ثقافيةٍ تستقطب المواطنين والزوّار والسياح، وتكون هي التي تخلّد الحاكم وتُبقي حضورَه مستدامًا حتى بعد انتهاء ولايته. فقليلون يعرفون كم وزيرًا عيَّن لويس الرابع عشر وكم مرسُومًا مَلَكيًّا أَصدر وكم شارعًا استحدثَ في ﭘــاريس، لكنّ الملايين يعرفون أَنه فتح قصر ﭬِـرساي للمسرحيين والموسيقيين وها آثارُهم باقيةٌ حتى اليوم تَدين بالفضل لـ”الملك الشمس”.
وكلُّ حاكمٍ قادرٌ أَن يكون في عهده “الحاكم الشمس” فتبقى شمسُه ساطعةً ولو بعد غُروبه، شرط تحقيقه إِنجازاتٍ ثقافيةً هي التي تُـخلِّـد ذكراه، لأَنها تَبقى بعدَهُ إِلى كل عهدٍ وعصرٍ، شاهدةً على فضله أَكثرَ من أَيِّ إِنجازٍ سياسيٍّ عــابِـــرٍ سُــرعانَ ما يزول بكلّ ما فيه و… جميع الذين حَـقَّـقُوه.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib