“أَزرار” – الحلقة 988
ليست مِــلْــكَ شركة مـحـلـيّـة… بل مِــلْــكُ الحـضارة العالمية
  “النهار” – السبت 6 أَيَّـــار 2017

كأَنه ما كفانا الإِهمالُ الناحرُ صخورَ نهر الكلب الأَثرية، ومشهدُ أَوساخٍ وأَعشابٍ بَــرّيَّــةٍ تنهش صخرة الجلاء، حتى طالعتْنا صدمةٌ أَشدُّ مرارةً: نحو 500 قطعةٍ من رُؤُوسٍ وقِطَعٍ لأَعمدةٍ رومانيةٍ مُكَـسَّـرةٍ مكَدَّسَةٍ منذ 1993 في مساحة قاحلة على شط بيروت، برّر وجودَها المسؤُولون أَنها “مكانٌ موَقَّتٌ في انتظار نقْلها إِلى المستودعات”.

موجودةٌ هناك؟ وأَين كان وجدانُ المفترَض أَنهم مسؤُولون منذ 24 عامًا؟

هذه قلْب بيروت، جوهر بيروت، فخر بيروت أَمام التاريخ، وليست نُفايات أَو أَشلاء أَو بضاعة كاسدة يتم إِخفاؤُها خجلًا، ونقْلُها إِلى المستودعات. هل من يرمي هويته أَو صورة بلاده أَو شهادة تاريخه في “مستودعات”؟

وهل عجَبٌ أَن يسأَلَ المواطنون ببساطة: “أَين كانت قبْلًا؟ ولـماذا رُمِيَت”؟ وهل يُـجيبُهم من لا يجهل تاريخَ بلادنا وعظمةَ آثارها ودورَها في تاريخ الحضارة؟ كيف نطلب أَن يحافظَ على إِرث لبنان ممن، إِذا كانوا يعرفون، يقرأُون لكنهم لا يتصرَّفون؟

لا نعرف أَين كانت في صدْر بيروت هذه الأَعمدة التاريخية الشهيدة، لكننا نعرف أَنْ يجب الاحتفاء بها حيث هي الآن بِـإِنارتها وترتيبها وتنسيقها فتشكّل شبه موقعٍ تاريخيٍّ وسياحيٍّ يقصدُه مَن يعرفون قيمة كلّ حصاة منسية على أَرض التاريخ.

أَما أَن تبقى “رجمة” حجارة وأَعمدة مكسَّرة مهملة مرمية في الشمس فهذا عارٌ على لبنان وليس على جَهَلةٍ لا يدركون معنى الحفاظ على شواهد من تاريخ لبنان المنكوب بطبَقةٍ سياسيةٍ أَفضلُ مكانٍ لـمُعظمها هو المستودعات.

قبل أَيامٍ طالعتْنا وزارةُ الثقافة مشكورةً بحملة تلفزيونية عنوانُها “حافِظْ على إِرثك الوطني… ثَــبِّــت أَثَــرَكَ على آثارِك” تدعو المواطنين إِلى تسجيل ما لديهم من قِطَعٍ أَثرية في بيوتهم كي تبقى إِرثًا محفوظًا. ولكن ما نفْع أَن تكون داخل البيوت قِطَعٌ أَثَرية ورُؤُوسُ أَعمدةٍ وضَعَها المواطنون أَقدامًا ومتَّكآتٍ لطاولاتهم، بينما قِطَعٌ من قلب التاريخ تبقى متروكةً منذ ربع قرنٍ شهيدةً صرعى في ورشةِ حفرياتٍ لشركةٍ خاصة على الطريق إٍلى مجمّع “بــيــال”؟

أَكان من الضروري أَن يتناول الإِعلام هذا الهدْر الثقافي، فينقلَ إِلى العالم مرآةَ أَولوياتٍ آنيَّةٍ زائلةٍ لدى نظام عمودي حجري؟ وهل ترميزُ كل قطعةٍ وترقيمُـها هو تمهيدٌ لنقْلها إِلى “مقبرة أَبدية” في حرج بيروت؟ أَم الأَهمُّ نَـقْلُها إِلى أَماكنَ بارزةٍ وساحاتٍ عامة في العاصمة، وتركيزُها وحمايتُها وإِظهارُها مضاءَةً باعتزازٍ نبضًا ساطعًا من تاريخ لبنان؟

يا ليت تلك القِطَعَ الأَثريةَ الشهيدةَ بقيَت مطمورةً في صدر بيروت قبل نبْشه، إِلى أَن يجيءَ زمنُ دولةٍ تعرفُ قيمةَ إِبرازِها وعرضِها والحفاظِ عليها فتنتشلُها من تحت الأَرض إِلى نواصي لبنان والعالم، لأَنها ليست مِلْكَ شركةٍ محليةٍ بل مِلْكُ ذاكرة العالم.

هـنـري  زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib