“مثلما اليَمامُ أُضِيمَ أَيْكُهُ فَرَحَل، هكذا رحَلوا. من ضائقةِ لُقمةٍ رحلوا، أَو من احتلالِ طُغمة. حَـمَلوا بُـؤْسهم وغضبَهم ورحلوا، يَـحفِزُهم أَملٌ بأَلّا يطول البُعاد، وطموحُ أَن يجعلوا من الوطن الـمُوَقّت جسر رجوعٍ إِلى أَرض الحنين“.
بهذه المقدمة افـتـتـحتُ مقالي “ظاهرة البُعاد والحنين في الأَدب المهجري – تجربة نيويورك” ونشرتُهُ في مجلّة “المجال” (واشنطن – العدد 253 – نيسان 1992).
عدتُ بالذكرى إِلى ذاك المقال حين أَطلقتُ قبل أَيامٍ كتاب “دليل المهاجرين اللبنانيين الأَوائل إِلى أَميركا مطلعَ القرن العشرين” عن منشورات “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية (LAU)، وهو جَمَعَ أُصولَهم في لبنان وتَوَزُّعَهم على الولايات هناك، مع عناوينهم المفصلة في كل ولاية، وما زاولوا فيها من مِهَنٍ وحِرَفٍ وأَعمالٍ يدوية أَو تجارية. وتصوَّرتُ ضَنى سلُّوم مكرزل فترتَئِذٍ بتنسيقه موادّ هذا “الدليل” لكل ولايةٍ على حدة، في كتاب جامعٍ أَنيقٍ أَصدرَه سنة 1908 في نيويورك على مطبعة جريدة “الهدى” اليومية.
كان يومذاك مجرَّد دليل تجاري. لكنه بين أَيدينا اليوم مرجع لدارسي شُؤُون الاغتراب اللبناني، والهجرةِ دوافعَ وظروفًا، وخُصوصًا للُبنانيين أَميركيين باحثين اليوم عن أُصولٍ لهم في لبنان لاستعادة جنسيَّتهم اللبنانية ولا وثائقَ لديهم تـثْـبتُ أُصولهم اللبنانية القديمة.
عدتُ بالذكرى كذلك إِلى تلك الأَفواج الأُولى من اللبنانيين، غادروا في ظروفٍ مأْساويةٍ كي يَجدوا في تلك الـ”أَميركا” موردًا باشتغالهم في أَعمالٍ معظمُها تجاري: أَقمشة وملبوسات ومواّد غذائية وسِلَع شرقية وحلويات لبنانية ومصنوعات حريرية ومطاعم، … كانوا يقتطعون من مداخيلها ما يُرسلونه إِلى أَهاليهم في لبنان الرازح فترتئذٍ تحت الاحتلال العثماني الـمسبِّبِ الأَوّل هجرَتَـهُم فرديًّا وجَماعيًّا.
غير أَن الأَبرز اليوم في أَهمية الكتاب النادر أَنه ثَــبْــتٌ إِحصائيٌّ ديموغرافي لأَوائل المهاجرين قبل أَن تكون لهم إِحصاءاتٌ رسمية، وأَنه خارطة تجارية لاندماج اللبنانيين في المجتمع الأَميركي ونظامِه الاقتصادي، وتاليًا لإِسهامهم في نهضة هذا الاقتصاد وذاك المجتمع، وهذا ما يبرر تغيير بعضهم في اسمه اللبناني و”أَمْــرَكَــتِـه” بما يتَّفق وسهولة لفظه هناك، لتيسير أَعمالهم ومبادلاتهم التجارية ونجاحهم الذي يلغي من الأَذهان صورةً نَـمَطية شَـمَلتْهم جميعًا “بيَّاعي كشة”جوّالين فقراء.
مع صدور هذا الكتاب/الحدَث، تصوَّرتُهم ضالعين ناشطين فاعلين في حيثُما حلُّوا، هاجَروا قسْرًا وتاجروا طوعًا فبرعوا ونجحوا، وكانوا جديرين بوصف جبران أَنهم “يُغادرون لبنان والحماسةُ في قلوبهم والعزمُ في سواعدهم، ويَعودون إِليه وخَـيراتُ الأَرض في أَكُفّهم، وأَكاليلُ الغار على رُؤُوسهم”.
في جميع صفحات هذا الكتاب النادر رأَيتُ أُولئك المهاجرين اللبنانيين ناجحين في المجتمع الأَميركي: على أَكُفِّهم خيراتُه من تَعَبِهم، وعلى رؤُوسهم العالية أَكاليلُ غارٍ وعنفوانٌ من أَرز لبنان.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib