حين كنتُ أُهَــيِّــئُ إِصدارَ كتاب “دليل المهاجرين اللبنانيين الأَوائل إِلى أَميركا مطلعَ القرن العشرين“، طبعةً حديثةً لكتابٍ كان أَصدَره سلُّوم مكرزل على مطابع جريدة “الهدى” سنة 1908، كان في هدفـي استرجاعُ أَفواجٍ أُولى لـمغتربين لبنانيين راحوا يبحثون عن الاستقرار والعمل في تلك الـ”أَميركا”، يُعدِّدهم هذا الكتابُ الذي صدر في حلّته الجديدة قبل أَيام عن منشورات “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية (LAU).
غير أَن هذا الكتاب ليس مجرَّدَ دليلٍ تعداديٍّ بالأَسماء والأَرقام بل له أَبعادٌ وطنية أُخرى. فهو ثبْتٌ لأُولئك المهاجرين الأَوائل، مِهَنِهِم، حِــرَفِهِم، أَعمالِهم، أُصولِـهِم في لبنان، تـوَزُّعِهِم في الولايات. فيه اسم المغترب، من أَيِّ بلدةٍ في لبنان هاجَـر، في أَيِّ مدينةٍ أَميركية استقر مع ذكْر عنوانه – رقم بيته والشارع -، المهنة أَو التجارة التي زاوَلَها هناك، كيف “تَأَمركَ” اسمه اللبناني كي يَسْهُلَ لفظُه على الأَميركيين، مثلًا: أَمين طانيوس بركات من اللويزة صار في نيويورك Andy Thomas، جِرجي الخوري سعادة من جونيه صار في آلاباما George Cody، سمعان طنوس ديب من حامات صار في ولاية كِــنْــتَــكِــي Mr. Sam Thomas ، إِلـخ…
الكتابُ إِذًا إِحصاءٌ مهنيٌّ غير رسميّ للُّبنانيين المهاجرين فترتئذٍ قبل أَن تكون لهم إِحصاءاتٌ ديموغرافية لبنانية رسمية، وهو يوضحُ حضورَ اللبنانيين الأَوائل في أَميركا، دُرَبـهُم في ميادين وحقول متعدِّدة، مهاراتِـهم ودَورَهُم وإِسهاماتِهم في نهضة المجتمع الجديد، واندماجَهم الطبيعي في النظام الأَميركي الاقتصادي.
من هنا أَنه أَولُ كتابٍ من نوعه عن أَوساط الجالية اللبنانية في أَميركا، ويكشف أَنهم لم ينحصروا منعزلين في “غيتو” أَو متقوقعين في بقعة واحدة من القارة الأَميركية الشاسعة، بل توزَّعوا حضورًا فاعلًا في أَميركا منذُئذٍ، ما يلغي من الأَذهان صورتَهم النمَطيةَ الأُولى أَنهم عند وصولهم إِلى الأَرض الجديدة كانوا “بـيـاعي كَشَّة” جوالين نازحين لاجئين فقراء.
أَهي قيمةٌ استعاديةٌ وحسْب؟ كلّا. لهذا الكتاب قيمة كبرى حتى للُّبنانيين اليوم، مقيميهم والمغتربين، أَن يكتشفوا فيه أَجدَادَهم وعائلاتِهم وأَفرادًا من أَهلِهم أَو عائلاتِهم أَو أَقربائِهم أَو أَنسبائِهم أَو أَصدقائِهم أَو أَبناءِ مدينتِهم أَو بلدتِهم أَو قريتِهم، هاجروا عند مطلع القرن الماضي وتوزَّعوا في أَميركا ديمُغرافيًّا وجغرافيًّا ومهنيًّا، فيكتشف لبنانـــيُّــو اليوم جُذورًا عميقةً لأَجدادِهم ومُدُنهم وبلداتِهم وقراهُم، وامتداداتٍ تاريخيةً وعائليةً ربما لم يكونوا يعرفونها عن ذويهم من تلك الأَيام العتيقة يُـعَـرِّفُهُم إِليها هذا الكتاب.
والمغتربون الساعون إِلى استرجاع جنسيتهم اللبنانية ولا وثيقةَ لديهم عن جذُورهم في أَرضهم الأُم، يَجِدون في هذا الكتاب إِثباتًا دامغًا على أُصولهم وبلدتهم في لبنان، ووثيقةً يستندون إِليها لأَحَـقِّـيَّـتهم في الجنسية اللبنانية. وكما أَلمح لي أُستاذٌ جامعيٌّ متخصِّص في الشأْن الاغترابي، سيَبقى “الدليل” مرجعًا أَكاديميًّا عن الانتشار اللبناني.
بصدور هذا الكتاب، تنفتحُ صفحةٌ مضيئةٌ أُخرى من رسالة “مركز التراث اللبناني” الذي نشَأَ في حَرَم الجامعة اللبنانية الأَميركية ليكونَ ذاكرةَ التُراث اللبناني في لبنان والعالم، فــيَــنْــشُــرَ لنا غِنى هذا الـتراث كي نستحقَّ لبنان، ونستاهلَ أَن يستحقَّنا لبنان.
هـنـري زغـيـب