سأَلَتْهُ الصحافية: “ماذا يعني لكَ لبنان“؟
أَجاب من دون البحث عن تزويق كلماته: “لبنانُ عندي رسالةٌ ونموذجٌ ومثال. قيمتُهُ السياسية والرمزية والثقافية أَوسَعُ منه وأَبعد. فهو بذلك أَكبرُ من حجمه. ولهذا نحبُّه. إِنه بلد التنوُّع والتعدُّدية والحرية، يمكننا فيه أَن نجاهر بأَفكارنا. وهو – برغم جميع الصُعوبات التي تعترضُه – أَفضلُ من سواه جوابًا حيًّا عن سُؤَالٍ أَساسي: كيف نعيش معًا في هذا القرن الحادي والعشرين المشحون تَصاعُدَ خلافات وتَنَامي اختلافات وازديادَ توتُّـرات. إِنّ في لبنان، برغم مشاكله الكثيرة، ظاهرةً مهمَّةً جدًّا: احترامُ الآخر. لذا أَقول بكل قناعة: بْحِـبَّك يا لبنان“.
هذا الجواب لـم يُدْلِ به لبنانيٌّ متعصبٌ، ولا زوجُ لبنانية، ولا علاقةَ له بلبنان سوى خدمته الدبلوماسية سفيرًا لبلاده، يعاين كل يومٍ نهضةَ لبنان الفكرية الثقافية الإِبداعية فوق ركام التخبُّط السياسي الفئوي الحزبي على كل صعيد.
إِنه السفير الفرنسي إيمانويل بُوْنّEmmanuel Bonne . ولعلَّه، منذ كان في بيروت مع مطلع حياته الأَكاديمية باحثًا لدى “المركز الفرنسي المعاصر للدراسات والأَبحاث الشرق أَوسطية”، تسنّى له الاطّلاع تفصيلًا على نسيج هذا اللبنان الفريد، وفي بالِه كتاباتُ مواطنيه الفرنسيين عن لبنان، من لامرتين إِلى موريس بارِّسْ إِلى بيار لوتي إِلى جيرار دونرفال إِلى شاتوبريان إِلى إِرنست رينان إِلى هنري بوردو إِلى شارل ديغول وسائرِ كبارٍ مرُّوا بلبنان وأَخذوا منه بصماتٍ مضيئةً طبعَت ذكرياتِـهم عنه فكتبُوها أَوفياءَ لـما شاهدوا وبقيَت هاديةً مَن يأْتون من فرنسا إِلى لبنان زُوّارًا أَو سيَّاحًا أَو دبلوماسيين.
هذه الشهادةُ الجديدة من إِيمانول بُوْنّ ليست تصريحًا سياسيًّا عاديًّا روتينيًّا لسفيرٍ أَمام الكاميرات، ولا إِجابةً عن سؤَالٍ عند خروجه من لقاء مع سياسيٍّ لبناني. إِنها شهادةٌ عقلانيةٌ في قالبٍ وجدانيٍّ لسفيرٍ ليس مجرد ممثِّلٍ بلادَه حياديٍّ يعيش في لبنان، بل مثقَّفٌ متنوِّرٌ يَذُوق لبنان الفكر والعطاء الحضاري، يعني له لبنان مساحةً فكريةً تتخطّـى الحاضر الدبلوماسي إِلى حاضرٍ ومستقبلٍ يرى فيـهما لبنان رسالةَ الشرقِ الهاديةَ إِلى التنَوُّع والتعدُّدية والحريّة واحترام الآخر.
هؤُلاء السياسيون اللبنانيون الذين يَشدُّون لبنان كلٌّ إِلى صدره كي يَقتطِـعَ حصَّته من القالب السياسي والشعبي، هل يسمعون تصريح سفيرٍ يتحدَّث عن لبنانهم كما لم يتحدَّث أَيُّ واحد منهم؟
هل يُدركون كيف يرى لبنانَ كلُّ متنوِّرٍ في العالم، وكيف هم يجعلُونه مغارةً لهم ولنَسْلهم ولـمحاسيـبـهم وأَزلامهم ويتناتشون قانونَ انتخابٍ ليكونَ على قياس كلٍّ منهم ويَدُوسون على قياسات الشعب والتاريخ وأَجيال لبنان الآتية؟
“لبنان أَكبر من حجمه”، قال السفير الفرنسي.
ومشكلتنا فـي السياسيين الذين يجعلُون لبنان أَصغر من حجمه إِذ يقزّمونه على قياسهم، وقياسُهم أَصغر بكثيرٍ من أَيّ حجْم مُشَرِّف.
وهذه كبرى مصيبتِنا بـهم … يـــــــــا سعادة السفير.
هـنـري زغـيـب