“أَزرار” – الحلقة 976
حياة دائِمة بعـد الحياة الهائِمة
“النهار” – السبت 4 شباط 2017

أَكتُب هذا الـمقال وأَمامي 6550 صفحة في 6 مجلداتٍ ضخمةٍ حجمًا كبيرًا، هي “المؤَلّفات العربية الكاملة” لأَمين الريحاني، بتقديمٍ بحثيّ مسْهَب فتحقيقٍ أَكاديـمي بالغ الدقّة للدكتور أَمين أَلبرت الريحاني، أَصدرَتْـها “مكتبة لبنان-ناشرون” في أَناقة مشْرقة يستحقُّها الريحانيان: الكبيرُ وابنُ الشقيق القيِّم الأَمين على تُـراث عمّه الأَمين.
مقالي اليوم ليس تقيـيمي هذا الانجازَ الأَدبيَّ الكبير ولا مديـحي مُـحقِّقَه القدير، بل هي – أَمام هذه الستة المجلدات – لحظةٌ استبْطانيةٌ ذاتيةٌ يتوقَّف عندها كاتبٌ يرنو إِلى مؤَلَّفاته اليوم، مخطوطِها الصابر ومطبوعِها الصادر، يَهدُر في باله مصيرُها عندما يَـنْـدَهُهُ الغياب، ويسترجع بيت عمر أَبو ريشة راثيًا الأَخطل الصغير حانيًا على قصائد الشاعر تَــتَــيَــتَّــمُ بعده:
لـم يَــبْـلُغ الخبرُ الناعي مسامعَها عن مثْل هذي اليتامى يُكتَم الخبَرُ
بـهذا الشعور (قلَق الكاتب على كتاباته بعدَه) أَغبِطُ كل أَديب لـصدور مؤَلَّفاته الكاملة بعد رحيله، لأَنها حياةٌ دائمة له بعد غيابه عن هذه الحياة الـمُوَقّتة.
يوم أَهداني توفيق يوسف عواد مؤَلَّفاته الكاملة سنة 1987 في مجلَّدٍ واحد من 8888 صفحة (أَيضًا وأَيضًا عن “مكتبة لبنان”) أَذكُر كيف تَـهَدَّج صوتُه أَكثرَ وهو يبادرني: “الآن أَستطيع أَن أَموت في سلام”. ولحظةَ استُشهد بعد سنتين بقذيفة مجرمة (16 نيسان 1989) أَظنُّه لم يَـمُت قلِقًا على مؤَلَّفاته الكاملة التي أَمضى شهورًا طويلةً ينقّح في صفحاتها حتى خرجَت إِلى النُور من نُور عينيه قبل أَن تخرج من عتمة المطبعة.
أَقول هذا وأُفكر بِـمَن لـم يَـــتَسَنَّ لهم أَن يروا مؤَلَّفاتهم الكاملة مطبوعةً فصدَرت بعدهم كما كانوا يشتهون. أُفكّر بفؤَاد سليمان وأَنطُون غطّاس كرم وعبدالله العلايلي ومارون عبُّود وأَنطون قازان وسواهم، وبكلّ مَن بادر فتولّـى بعدَهم بأَبهى حُلّةٍ إِصدار مؤَلَّفاتهم حتى ليستحقُّون اليوم أَن نقول لهم ولأَمثالهم مـحظِـيِّــي تلك النعمة: “أَطال الله عمْر غيابكم”، فغيابهم عنّا أَشدُّ سُطوعًا علينا مما لو كانوا بيننا، لأَن مؤَلّفاتهم الكاملة حياةٌ لهم دائمة بعد هذه الحياة الهائمة.
أَعود إِلى أَمين الريحاني أَمامي، ويُذهلُني هذا الكَمُّ العظيم من النصوص مقالاتٍ وكتبًا: 300 مجلَّدًا في العربية و31 في الإِنكليزية، وأَقيسُه على عمره عند وفاته (غاب عن 64 عامًا) فأَخجل أَن أَكون تخطَّيتُ اليوم سِنّ غيابه وما زلْت دونه إِنتاجًا، وأَشعر بالندَم الـمالِـح الحامض على عمْرٍ هدرتُ فيه وقتًا كثيرًا وكان الأَجدر بي أَن أَكون كاتبًا متفرّغًا بـــ”وقت كامل” لا أَن أَشْـرُدَ هنا وهناك وهنالك في قَـفَـزاتٍ أَرنبيَّة سَبَقَتْني خلالها سلحفاةُ العمر، وأَعرف أَنْ لنْ يكونَ لي مَن يتولّـى بعدي مؤَلَّفاتي الكاملة كما تَسنّى للأَمين الكبير ابنُ شقيقه الوفـيّ الأَمين.
هـنـري زغـيـب
email@old.henrizoghaib.com
www.henrizoghaib.com
www.facebook.com/poethenrizoghaib