“أَزرار” – الحلقة 975
العقل بين الـنانو Nano والـجيغا Giga – القسم الثاني
“النهار” –  السبت 28 كانون الثاني 2017

عن برناردشو أَنه كتَب يومًا إِلى صديقةٍ رسالةً ختَمَها بعبارة “أُعذريني أَنْ كتبتُ لكِ عشر صفحات. لا وقت لديَّ كي أَكتب رسالةً موجزة”.

سُطوع البلاغة في هذه العبارة: دلالتُها على صعوبة الكاتب في الإِيجاز، وسهولة كتابته السَردَ الـمُرسَل، ما يأْخذنا إِلى بلاغةٍ أُخرى في عبارة النِفَّري الصوفي: “كلَّما اتسعَت الرؤْيةُ ضاقَت العبارة”.

من هنا أَنّ النثر فضيحةُ الشاعر وفَـخُّ الناثر لأَن في اللغة لُغاتٍ عدّةً ذاتَ إِيقاعاتٍ عدّة لكلٍّ منها موطنُه في الأَثر الفني والأَدبي، ويندُرُ مَن له موهبةُ امتلاك لغات اللغة.

وما أَقولُه في الأَدب أَقول مثيله في الفنون التشكيلية والمشهدية للدلالة على معيار “الأَقلُّ هو أَكثر” أَي أَن الإِيجاز الأَقلّ أَبلغُ تعبيرًا من السرد الأَكثر. لذا يُبدع خُلُودًا مَن يزيل الثرثرة من عمله الفني أَو الأَدبي فيُنَقّيه من غبار الشرح والتطويل والتفصيل ويُنقذُه من الإِطالات الطافرة. وهذا ما قصده رودان حين سُئِل عن سرّ إِبداعه تمثالَ “المفكَر” فأَجاب: “الأَمرُ بسيط. جئتُ بصخرة مسنَّـنَـة طافرة أَزَلتُ عنها الزوائد غيرَ المصقولة فبَقيَ منها التمثال نظيفًا مصقولًا”.

ما أَقوله عن الإِيجاز في العمل أَقوله عن الوقت، خصوصًا في عصرٍ بات معه الإِيجاز في الوقت علامةَ العصر. فبعدما كان بريدُ الأَمس السحيق يتوسَّل الحمام الزاجل، والأَمس القريب يتوسَّل البريد الوَرَقيّ العاديَّ الـمُتَسَلْحِفَ في الوقت البطيء، بات إِيقاع الوسائِط الإِلكترونية اليومَ يتوسّل الإِيجاز في الرسائل النصية القصيرة والنصوص الفايسبوكية السريعة والتعليقات التويـتِـرية الموجزة والإِرسالات الإِلكترونية البرقية، ما يختصر الكلمات والوقت. وما دام بلوغُ المعلومة العاجلة يتوسَّل وسائطَ العصر في الإِيصال، فكيف لا نستخدمُها كذلك في التأْليف؟

مع هذا الإيقاع العصريّ السريع يشيحُ المتلقّي عن الآثار الأَدبية والفنية الـمُستفيضةِ الوضع والوقت وينحو إِلى أَثر يَقرأُه أَو يُشاهده أَو يزُوره على شاشةِ محمولِهِ أَو جهازه الثابت مُوَفِّـرًا وقتًا في البحث أَو الانتقال أَو زيارة الأَثر في موقعه المادي. ولذا يَجْدُرُ بالمبدعين في كل حقل أَن يستلْحقوا سرعة العصر أَداءَ وإِيصالًا، ويتَّبعوا إِيقاع العقل المعاصِر بانتقالهم من الـ”جيغا” (giga) إِلى الـ”نانو” (nano) في الأَعمال الإِبداعية لتكون أَبلغَ وأَقوى وأَجملَ وأَفعلَ وأَبقى وأَنقى من أَعمال العقود السابقة أَيّامَ كان أَصحابُها يأْخذون وقتهم في وضعها ومتلقُّوها يأْخذون وقتهم في بُلوغها.

من مطوَّلات الأَمس إِلى “هايكو” (haiku) اليوم، أَحدُسُ أَنَّ العصر آخِذُنا إِلى “نانو” (nano) أَكثرَ نانويةً بعد، وأَبعدَنا نهائيًا عن كل “ميغا” (mega) أَو “جيغا” (giga) تجعل آثارَنا خارجَ العصر وتاليًا خارج قرائنا ومتلقِّين ما عادوا يَضبُطون صَبَاحهم على كسَل صياح الديك بل على دِقّة الـمُنَـبِّـه الإِلكتروني.

هـنـري  زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib