قرأْتُ هذا الأُسبوع خبَرًا من الرياض عن سَير العمل في “مترو الرياض”، وهو قطارٌ كهربائيٌّ بدون سائق، تدشينُه في مطلع 2018، وسيخترق في ستة خطوط مفاصلَ العاصمة السعودية، يتوقّف في 85 محطة، ينقل يوميًّا مليونًا ونصف مليون راكب، وسينقل بعد عشر سنوات ثلاثةَ ملايين راكب كلّ يوم.
أَخذَني هذا الخبر خمسين سنةً إِلى الوراء، على عهد الرئيس شارل حلو، حين قدَّمت شركةٌ سوفياتيةٌ سنة 1968 إِلى الحكومة اللبنانية مشروعَ “مترو بيروت“، وأَرسلت مهندسيها لعرض تفاصيل المشروع هندسيًّا، وشَبَكَتَه من الدورة شمالاً فالروشة جنوبًا، ومن عين المريسة غربًا إِلى الغبيري شرقًا، في 22 محطة مع مصاعدها للخروج إِلى الشارع، أُسْوةً بمحطات المترو في دُوَلٍ تهتَمُّ بإِنقاذ مواطنيها من الموت اليومي على طرقاتٍ مكتظَّة بغابات السيارات الكادحة والشاحنات الرازحة والميني فانات الطائحة أَرواح الركاب والمارّة.
ما الذي حصل قبل خمسين سنة؟ غطَّ المشروع في نوم الأَدراج بحُجّة درْس معمَّق لــ”جدواه الجيوبية” و”الحصصية” و”الكُوتاوية”. وحين لاحظَ السياسيون اللبنانيون “الفروماجيون” أَنْ لا “حَظَّ” لهم في “سخاء” الاتحاد السوفياتي، أَهملوا المشروع فغادر المهندسون السوفيات بين السؤَال والتساؤُل والخيبة.
ولا حاجةَ بكُم، طبعًا، إِلى تَصَوُّر حلّ أَزمة السير منذ تلك الفترة في العاصمة، ومن العاصمة إِلى الأَطراف، لو صدَّق ذلك المشروعَ قبل خمسين عامًا مسؤُولون لبنانيون – معظمُهم، من غير شر، لا يزالون طبعًا حتى اليوم في مقاعد المسؤُولية خالدين إِلى الأَبد – إِذًا لرُبما كان “مترو بيروت” توسَّع اليوم إِلى بيروت الكبرى، ووفَّرَ على اللبنانيين قهرَين: قهرَ مسافةٍ قصيرة تقطعُها السلحفاة قبْلهم، وقهرَ تلوُّثٍ يخنق اللبنانيين في سياراتهم وسْط زحمةِ سيرٍ قاتلةٍ وقتَهم وأَعصابَهم.
خمسون عامًا ضاعت على اللبنانيين فرصة أَن تكون عاصمتهم جميلةً هانئةَ العيش والتنقل، عوض أَن تكون رُجمةً شاهقةً باتت شوارعُها كاراجات متنقلة محشورة ملزوزة أَضيقَ من اليأْس وأَبشعَ من كابوس عقارب الوقت المتَسَلْحِف وأَفاعي العمر المهدور على الطرقات.
خمسون عامًا ضاعت على اللبنانيين، فرصةً بعد فرصة، كما سائر مشاريعَ مدينية عمرانية حضارية تتلاشى ملفَّاتها في الأَدراج بين نُفايات واتصالات وتلزيمات وكوتات ومحاصصات وعمولات وتنفيعات ومحسوبيات وزبائنيات، والشعب يئنُّ من مسؤُولين ما زال يأْتي بهم أَو بنسلهم بعد دخولهم في الراحة الأَبدية.
بعد عشر سنوات يُــقِـلُّ مترو الرياض في يومٍ واحدٍ ثلاثةَ ملايين راكب، أَي نحو نصف سكان لبنان.
وقبل خمسين سنةً كاد سكان لبنان ينتظرون “مترو بيروت“، وسينتظرون خمسين سنةً بعد، طالما المسؤُولون السياسيُّون في عافية وخير كما كانوا قبل خمسين سنةً، وسيبقُون هُم هُم بعد خمسين سنةً، رابضين على صدر اللبنانيين طالَـما في شعب لبنان مَنْ سيظَلُّ يأْتي بهم وبنسْلِهم الـمُتَولّي حكمَه الـمَوْرُوثُـقْراطيَّ من جيل إِلى جيل.
هـنـري زغـيـب