“أَزرار” – الحلقة 974
العقل بين الــ”نانو” والـ”جيغا” (2/1)
“النهار” – السبت 21 كانون الثاني 2017

في اللغة اليونانية أَنّ البادئة “نانُو” (nano) تعني جُـزءًا من مليار، و”ميغا” (mega) تعني جُزءًا مضروبًا بمليون مرّة، و”جيغا” (giga) تعني جُـزءًا مضروبًا بمليار مرّة. الأُولى تعني الأَقلّ والأَصغر، والوُسطى تعني أَكثر وأَكبر، والأَخيرة تعني الأَكثر والأَكبر. ومع تَوالي العُصور انتقل العقل البشري (سريعًا في العقود الأَخيرة) من الـ”جيغا” إِلى الـ”ميغا” إِلى الـ”نانو”، أَي إِلى الأَقلّ والأَصغر إِنما الأَقوى والأَفعل.

من ذلك في التكنولوجيا: انتقالُ جهاز الهاتف من علبة كبيرة وثقيلة إِلى قطعة أَصغر من كفّ اليد، وانتقالُ الآلة الحاسبة من قديمها الثقيل إِلى جديدها الأَخفّ من وزن فراشة، والآلة الكاتبة من عتيقها البليد إِلى حديثها في مكابس الكومبيوتر أَو الهاتف المحمول، وآلة التصوير من علبةٍ مربَّعة أَو مستطيلة (تنتظر الفيلم الملفوف في داخلها خشيةَ تَعرُّضِه للنور) إِلى جُزَيئةٍ ضئيلة في قلب هاتفنا الخلوي.

وفي العلوم: انتقالُ الأَحجام الكبرى في السيارات من كبيرة فخمة ضخمة إِلى الأَصغر والأَكثر قوةً واندفاعًا، وانتقالُ الهندسة المعمارية من الأَبنية الضخمة الوسيعة إِلى الضمور أَقل ضخامة وأَكثر اتساعًا، وانتقال الكاتدرائيات والحدائق والمدافن والمساحات والأَحجام الضخمة القديمة المهيبة إِلى مساحاتٍ وعَلواتٍ أَبسط وأَجمل.

وكذا في كل قطاع علْمي بأَدواته وآلاته ومستلزماته وقِطَعه: يتطوَّر العصر إِلى الإِيجاز في الشكل والحجم فيغنَم المضمون كثيرًا من “الأَقل” في الشكل والحجم ليكون “أَكثر” فاعلية في المضمون. وهكذا نَشهد عصرنا يتخلّى عن الـ”جيغا” ثم عن الـ”ميغا” ويتحوّل إِلى الـ”نانو” ليصبح أَسرع وأَقوى وأَبقى في سيره الناشب إِلى المستقبل. وهذه خصيصة يتمتّع بها العلْم ليبلغ إِلى جمالٍ في الشكل وجلال في المضمون، وهذا مؤشّر المستقبل في معالم القرن الحادي والعشرين الذي انقضى منه عقدٌ ونصف العقد، ولا يمكن أَن نتصوّر أَو نتخيّل كيف سيختُم عقده الأَخير بعد 83 سنة.

التطوُّر إِذًا ينحو إِلى التوجُّه الواضح صوب الإِيجاز الفاعل، الاختصار الفعّال، الضمور الأَشدِّ اختصارًا والأَكثر انتشارًا، وهذا هو الفارق الدامغ بين الماضي والمستقبل وبينهما حاضرٌ نعيشه اليوم جسرًا جليًّا بين الأَبطإِ والأَسرع، بين الذكيَ والأَذكى، في الانتقال من الـ”الجيغا” إِلى الــ”ميغا” وُصولًا إِلى الـ”نانو”.

فـــإِلى أَين يأْخذُنا هذا العصر؟ وإِذا كانت ضخامةُ الأَمس رمزًا للتوق إِلى الأَعلى والأَسمى، إِلى الخالق المهيب، أَليست بساطةُ اليوم توقًا إِلى البساطة والجمال وهما أَيضًا من صفات الأَعلى والأَسمى والخالق المهيب؟

يَـثـبُتُ، اكتشافًا بعد اكتشاف واختراعًا بعد اختراع، أَنّ العصر مُقْبلٌ على الإِيقاع الأَسرع إِنما الأَفعل، الأَصغر إِنما الأَقوى، وعلى إِيجازٍ في التفكير والتعبير، ما ينسحب أَيضًا على الفُنون والآداب.

وهو ما سأَعرضه في “أَزرار” السبت المقبل.

هـنـري  زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib