“نقطة على الحرف” – الحلقة 1276
بيتُ الكَــلْــب
إِذاعة “صوت لبنان” – الأَحَــــد 2 تشرين الأَول 2016

في السائِد بين الأَعراض الـمَرَضِيَّـة ما تُسمّى “أَعراض دِيوجين” نسبةً إِلى هذا الفيلسوف اليوناني الذي، في القرن الرابع قبل الميلاد، يقال إِنه أَمضى حياته متقَشِّفًا في برميل مقلوب، زاهدًا عن اقتناءِ أَيِّ مأْوًى أَو ثيابٍ أَو مِتاع، حتى بات برميلُهُ كَبَيت الكلب رائحةً واتّساخًا، فسُمّي “دِيوجين الكَـلْـبيّ”.

من هنا إِطلاقُ عبارة “أَعراض دِيوجين” على كُـلّ مَن يعيش بِدون نظافة بَدنية، بدون اهتمامٍ بمظهره، بشكله، بسلوكه، بتصرُّفاته، وبمقتنياتٍ له لا يرتِّب منها شيئًا ولا يَـرمي منها ما ليس يحتاجُه، ولا يَفرز منها صالحَها والمفيد، بل يَــتركها تتكدَّس في بيته أَكوامًا وصناديقَ وأَكياسًا وأَدواتٍ ولوازمَ مَرميَّةً كيفَما اتَّفق، يُؤَجِّل رَمْيها وفَرزها وتوضيبَها حتى تتجمَّع لديه فتُمسي خَطِرةً مُؤْذيةً وربما قاتلة، أَين منها تَكَـدُّسُ كتُب الجاحظ فَوقَه حتى انهارَت عليه وقَـتَـلَـتْـهُ.

“أَعراضُ دِيوجين” تَـأْخُذُني إِلى معظم سياسيّـي لبنان اليوم في تصرُّفاتهم وتَـحَـرُّكـاتهم وسُلوكِـهم بين التأْجيل والتحويل والترحيل والتسويف والتخويف وتمييع مَشاكلَ أَساسيةٍ في الوطن تَطالُ حياةَ المواطنين ومصيرَهم وتُلحّ معالَـجَـتُها، بينما هُم يُـؤَجِّلونها من عَقْد نيابـيٍّ إِلى عَـقْدٍ آخَر، ومن جلسةٍ حكوميةٍ إِلى جلسةٍ لاحقة، ومن اجتماعِ كُـتلةٍ إِلى اجتماعِ تَـكَـتُّل، والمشاكلُ تَـتَـكَـدَّس، والأَزماتُ تَـتَـجمَّع، والحلولُ تَـتَـأَجَّل، وتعلو أَكوامُ الـمُعضِلات الـمُرَحَّلة كما تعلو أَكوام النُفايات في الشوارع والساحات، ولا مَن يسأَل مِن السياسيين، ولا مَن يتحرَّك مِن المعنيّين، ولا مَن يُعالج مِن السياسيين.

وهُنا الخطَرُ الدِيوجينيُّ القاتل: عند مَصير الوطن لا فرقَ بين المشاكل المؤَجَّل حلُّها والنُفايات المؤَجَّل رَفعُها. وتكديسُ الحلول الـمُؤَجَّلة أَخطرُ أَذًى مصيريًّا من تأْجيل رفْع النفايات.

ومثلما شَـمَتَ فينا العالـمُ لعجْـز مَسؤُولينا عن حـلّ معضلة النُفايات في انتظار إِتمام إجراءاتٍ (هي علنًا مناقصاتٌ وسرًّا هي صفقاتٌ وعمولات) كذلك يَشمُت فينا العالم اليوم لعجْـز سياسيينا عن حَـلّ معضلة الشغُور الرئاسي في انتظار حَـلٍّ مِن الخارج، ويَشمُت فينا – حتمًا يَشمُت فينا – لتأْجيل السياسيين عندنا جميعَ مشاكل الداخل وتكْديسِها، حتى أَصبحَ الوطن، بسببهم، يُشبه بيتَ دِيوجين الكَـلْـبـيّ رائحةً واتّساخًا وكارثةَ إِهمال.

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib