تلك الليلة، في باحة الأَمير، كـنا بين سُطـُوعَين: قـمَر مشغَرة وقـمَر بيت الدين، الأَول جامعًا إِلينا نغماتٍ حنوناتٍ من أَعمال زكي ناصيف، والآخَر جامعًا إِيَّانا في سهرةٍ مُشرقةٍ من ليالي مهرجان بيت الدين.
لفتةٌ نبيلةٌ من إِدارة المهرجان: استذكارُ مكــرَّسين لبنانيين في الفن الراقي (كما ليلة “صباح” 2011) نعيش معهم ومضاتٍ سعيدةً من نتاجهم العالـي تَغْسلُنا من وُحُول أَعمالٍ حاليّة مُخجلة من أَحطِّ ما عرف تاريخ الفن في لبنان.
على مدخل باحة المهرجان تسأَلني إِعلاميةٌ عن رأْيـي في بادرة مهرجان بيت الدين بتكريم زكي ناصيف، فأَجبتُها بـما لا أَنفكُّ أُردِّده: الكبار لا نكـرِّمهم بحضورنا بل نتكرَّم نحن بحضورهم معنا وبيننا بفضْل مبادراتٍ نبيلةٍ لتقديم أَعمالهم تقوم بها جهاتٌ رصينةٌ كـإِدارة مهرجان بيت الدين.
ومع المبادرة: تأْمينُ المستوى اللائق بالمبدع. قبل أَسابيع تابعْنا أُمسيَـتين راقيَــتَين من أَعمال زكي ناصيف: أُولى على سطيحة بيته في مشغَرة بدعوة من جمعية “أَﭘــساد”، والأُخرى في “الأَسمبلي هول” بدعوة من “برنامج زكي ناصيف” الذي تحتضنُه الجامعةُ الأَميركية محفوظاتٍ وتدريسًا، وكلتا الأُمسيتين أَدَّتْها الأُوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق عربية في احترافٍ لائقٍ بقيادة المايسترو أَندريه الحاج الذي نَـصَّع بوفاءٍ مسؤُولٍ كتابةَ زكي ناصيف الأُوركسترالية، وأَدارها بأَمانةٍ عالية الاحتراف.
هكذا نُبقي الكبار أَحياء بآثارهم فلا تتكدّس عليها طبقاتُ النسيان، وتَظلُّ أَعمالهم طريقنا إِليهم، نزورهم دائمًا ونغتذي بإِبداعاتهم لنحتمي من جُوع. الإِبداع وحده لا يخترق السنوات، بل تقديمه. الخالدون موزار وﭬــيردي وبيتهوﭬـن ورفاقهم ليسوا بيننا بإِبداعاتهم فقط، مكَدَّسةً في الدفاتر والكُتُب، بل لأَن أُوركسترات عالمية ما زالت تُؤَدّي أَعمالهم فتخلِّدها.
الدَور ذاته مطلوبٌ من الإِعلام، مرئـيِّـه والمسموع، ومن الصحافة المكتوبة والإِلكترونية، كي تظلّ في حاضر الناس أَعمالُ الماضين من الخالدين فتضمَنَ اختراقَها المستقبل.
خالدونا المؤَلّفون الموسيقيون اللبنانيون أَمانةٌ في ضمير الأُوركسترات اللبنانية، والكورالات اللبنانية، والمهرجانات السياحية والفنية اللبنانية الرصينة، ووسائل الإِعلام والصحافة الوَرَقية والإِلكترونية اللبنانية، كي نتفيَّأُ نجاح أَعمالهم كلما لفحــتْــنا شمس السقوط.
هذا ما تحرص عليه إِدارة “برنامج زكي ناصيف” ونتمنى أَن تصعب دَومًا في السماح بأَداء أَعماله فلا تُتيحها إِلّا لِـمَن يُبقيها على مستواها الراقي فلا يَـبـتـذلُـها مَن يُـحوِّلها إِلى كرنــﭭـال جماهيري وتهريج عزفـيّ ويُـمَـسِّخُها بأَجواء كاباريهات تغتال زكي ناصيف في استراحته الأَبدية.
أَداء أَعمال زكي ناصيف، كَأَداء أَعمال الكبار من مبدعينا، مسؤُوليةٌ لا يأْتيها كلُّ من ادّعى الغناء. فبين الصوت والأَداء فَرقُ ما بين التقليد والتخليد. ومَن لا يعرف الفرق بينهما فلْيبحث عن عملٍ له خارجَ شرف الغناء.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib