إِذا كان معيارُ الفنَّان في عمله الجديد (رسمًا، نحتًا، شِعرًا، موسيقًى، كوريغرافيا، مسرحًا، …) أَن يتجاوز عملَه السابق بإِضافاتٍ إِلى أَشقَّائه قبله، فعمَل كركلّا الجديد “إِبـحارٌ في الزَمن” سجَّل نقاطًا مضيئةً لـمسرح كركلّا خصوصًا، واستطرادًا للـمسرح الكوريغرافي.
وإِذا كان معيارُ العمل الفني أَن تتكامل عناصرُه كما تتكامل الأَصابع مكوِّنةً يدًا خلّاقة، فــ”إِبـحارٌ في الزمن” سَـجَّل تكامُلًا نقيًّا بين جميع مكوّناته الفنية فخرج من معبد باخوس صوتًا ساطعًا لـمهرجان بعلبك في عيده الستين، مُـخاصرًا أَصواتَ كبارٍ كم أَيقظت سكون الهياكل منذ 1956، مراتٍ من مبدعين لبنانيين، ومرّات من ضيوف خالدين وقفوا على أَدراج بعلبك فاغـتَــنَــوا بِــهَـيـبَـتِـها واغتَـنَـت بمرورهم على أَدراجها شُهُبًا تُبقي ليل بعلبكِّـنا الرائعة حارسًا نهارات التاريخ.
يَغْنى لبنان وتَغْنى فضاءات العالم بأُسرة فنية من لبنان نَذَرَت الضنى والتعب والجهد القاسي ليُـثْـبِـتَ ثالُوثُها عبدالحليم وولداه إِيــﭭــان وإِليسار أَن الفن ابن الصعوبة الـمُـرة التي تحلو متى بلغَت مرآتُـها الناسَ فرأَوا فيها جمالًا للعيون لا تفيه إِلَّا دهشة الـــ”آه”.
إِليسار كركلَّا قالت جديدًا في لوحاتها الكوريغرافية، لا بِـجـعـل الأَجساد تسبح في الفضاء بل بجعْل الفضاء ذاته يسبح بين الأَجساد، يحملها مرةً إِلى انعدام الجاذبية، ومراتٍ إِلى التواطُـؤ معها على خلْق الجمال مُشعًّا بالحركة الساطعة بين القلب والبصر.
إِيــﭭــان كركلَّا خطَـا في إِخراجه أَبعد مما يأْلفه المسرح اللبناني، فاعتمَد البُعدَين: الـمسرحي والسينمائي – وهو اعتاده قبْلًا لكنه هذه المرة أَكثر نضجًا – فدخلَت الشاشة الـمثلّثة الأَبعاد في نسَقٍ عُضويّ مع المسرح جعَل الديكور شخصيةً حيَّةً دينامية لها حوارُها الخاص الـمتكامل مع السيناريو حركةً وصورةً ودلالاتٍ تسجّل مرور الزمن وتختصر بالصورة ما لم يقُلْه الحوار المسرحي. وأَرى إِيــﭭـان كركلّا، برؤْيته الإِخراجية وبما بات يكتنز من خبرة ومهنية وتقنية، خليقًا بإِبهار أَيّ مسرح استعراضي عالـمي.
ويتوّج الابنةَ والابنَ معًا والدٌ قَسَا على ذاته أَولًا ثم على ولدَيه ثم على عمَله، ليحمل لبنانَ الجمال إِلى العالم رسالةَ حضارةٍ يبذل لها ما يتجاوز احتساب الوقت ليبلغ نيرﭬــانا الوصول إِلى قمةٍ للبنانَ جماليةٍ يباهي بها لبنانُ إِبداعات العالم طالعةً هذه المرة من أُعجوبة بعلبك.
وفي قسوة عبدالحليم كركلّا، نصًّا وسينوغرافيا وإِشرافًا صارمًا على الموسيقى (عليغولي هو الآخَر تجاوز بموسيقاه الـمَهيبة أَعماله السابقة) وعلى الملابس وعلى التمثيل الاحترافي الـمُكَــرَّس من نجوم يحبُّهم لبنان، ما جعل من قسوة كركلّا مبدأً لازمًا لا ينجح بدونه أَيُّ عمل رصين.
في بعلبك هذا الصيف شهِدْنا عيدَين: ستين المهرجان، وعرسًا إِبداعيًا يحمل إِلى العالم أَنوارًا من جَـماليَا لبنان.