تكثُر الكتابات هذا العام عن شكسبير لـمرور 400 سنة على غيابه (1616-2016).
بين آخِر ما قرأْتُ في هذا السياق: مقالٌ في الطبعة العربية للجريدة الإِلكترونية الأَميركية “هافنغتون بوست” عن كتاب “أَلف ليلة وليلة” وأَنه “أَثَّـــر كثيراً في الأَدب الغربي… فهل سرق منه شكسبير”؟
ويدقّـق المقال تفصيلًا في ما يسميه “السرقات الأَدبية” الشكسبيرية من “أَلف ليلة وليلة” كتوارُد المضمون بين “عُطَيل” و”قمر الزمان”، بين “تاجر البُندقية” و”التاجر مسرور”، وبين “الملك لير” و”الملك يونان”.
في مثل هذا السياق يتحدثُ النقد عن توارُد الفكرة بين “رسالة الغفران” (1033) للمعرّي، و”الجحيم” (1303) وهو الفصل الأَول من “الكوميديا الإِلهية” لــدانتِه، و”الفردَوس المفقود” لِــمِلتون، و”فصل في الجحيم” (1873)
هذه المشابهات، على قُربِ بعضها أَو بُعْدِه عن الأَصل، ليست “سرقات” بقدْرما هي عودةٌ إِلى “منبع أَفكار” يستلهم منه المبدع فكرةً يطوِّرُها بأُسلوبه حتى يغدو النصُّ الجديد إِبداعيًّا في ذاته بعيدًا عن الأَصل المأْخوذة منه الفكرة الأَساسية، إِن كانت هذه فعلًا مصدرًا للنص
هذا في الأَدب يسمى “توارد أَفكار” بين عصرٍ وعصر، بين أَديبٍ وآخَر، بين كتابٍ وآخَر، ولا يعني أَن صاحب النص الجديد “سَرَقَ” الفكرة من نص سابق، إِلّا إِذا تجلّى مثلًا في بيتٍ من الشعر يَـرِدُ صَدْرُه أَو عَجُزُه حرفيًّا كما ورد في قصيدة سابقة، أَو في جملة نثرية مأْخوذة بحرفيتها عن جملة
الأَمر إِذًا ليس “سرقةً” أَدبية بل استلهامُ مصدر، مثلما استَلهَم لافونتين شكلًا وبعضَ مضمونٍ كتابَ “كليلة ودمنة” لابن المقفع الذي نقلَه بدوره عن النسخة الفارسية المترجَـمة بدورها عن أَصل هندي مكتوب
الأَصل هو كيف يحوّل الكاتبُ الأَصلَ فصلًا إِبداعيًّا جديدًا، وَفْق مقولةِ إِن الأَديب المبدع ليس “ماذا يَكتب” بل “كيف يَكتب ماذا”. من هنا أَن أَعمالًا أَدبيةً كثيرةً ترقى أُصولها إِلى الأَساطير القديمة (اليونانية في معظمها) أَخذَها الأَديبُ مادةً قصصيةً أَو روائيةً، أَو استلهَمها الشاعرُ مادةَ قصيدة، فلا يـبـقى من مضمون الأُسطورة سوى العقدة أَو الغلاف، وتكون المادةُ النثريةُ أَو الشعريةُ الجديدةُ عملًا إِبداعيًّا مستقلًّا في ذاته.
البحثُ عن الحبيبة لم يتوقَّفْ عند “أُوديسَّةِ” هوميروس وبحْثِ أُوليس عن حبـيـبـتـه بنلوب، بل هو قَـدَرُ كلّ شاعر يـبـحث عن الحب، فيَمُرُّ من مرحلةٍ إِلى أُخرى واهمًا أَنه وجدَه، حتى تصِل بنلوب التي يعيش معها الحب المنشود ولو في أَواخر حياته.
الـمصدر، مصدرُ الإِلهام والاستلهام.
والمبدع الخلّاق هو مَن يَشرب من نبعٍ، ويؤَسس بدوره لِـما يكون بعدَهُ نبعًا جديدًا لـمصدر
هـنـري زغـيـب