تحفل شاشاتُنا منذ فترةٍ غيرِ قصيرة بمسلسلاتٍ تحمل هويةَ “الإِنتاج العربي الـمُشترك”، دعمًا لضخامة الميزانية، وسعيًا إِلى مساحة أَوسع لتسويق الحلقات على محطات تلـﭭـزيونية أَكثر، لشراء المسلسلات وعرضها وإِعادة بَــثِّـها في مناسبات لاحقة ومواسم تالية.
هذه الصيغةُ الناجعة في الغرب والناجحةُ في زيادة رأْسمال الإِنتاج، لها في المسلسلات العربية شوائبُ منها الفني ومنها الإِداري، في طليعتها اختلافُ اللهجات بـين ممثلٍ وآخَر حين يكون الأَول من بلدٍ والآخرُ من بلدٍ آخَر، فيصبح النُطق كاريكاتوريًّا حتى في أَشدّ لحظات الدراما، كأَنْ نشاهدَ، مثلًا، والدًا سوريَّ اللهجة وابنَه مصريَّ اللهجة وزوجتَه لبنانيةَ اللهجة، فينْجم من هذا الخليط غـير الـمقْنِع خلَـلٌ في متابعة السياق، مصدَرُه اختلافُ اللهجات في أُسرة البيت الواحد، ولو انّ السيناريو في الأَساس مترابطٌ والحوارَ منسجمٌ مع السياق. ويزداد الأَمرُ فَسادًا حين يحاول الـممثلُ الـمصريُّ النطقَ باللبنانية أَو السوريُّ النطقَ بالـمصرية، فيزيد القناعُ تشويهَ الوجه الحقيقي.
وإِذا كان هذا الخليطُ سائدًا ومقبولًا في الدول العربية على أَنه “تمثيل بتمثيل”، فهو في لبنان على صورة وضْع سياسي ليس “تمثيلًا بتمثيل” بل تمثيلٌ بمصير بلدٍ يـتـهاوى بين لهجةٍ سياسيةٍ من بلدٍ ولهجةٍ سياسيةٍ من بلدٍ آخَر في القاموس السياسي السائد، حتى تتداخل لهجات البلدان في “إِنتاج دُوَلـيٍّ مشترك” لـمسلسل يتابعه الـمواطنون بقلقٍ وحذَرٍ من مصيرٍ يُـهوِّل فوق رؤُوسهم بمصيرٍ مجهولٍ لسفينةٍ لم يتقرَّرْ بعدُ على أَيّ شاطئٍ ترسو، وإِلى أَيّ ميناء تَــتَــوجَّه.
الإِنتاج المشترك باختلاف لهجاته في المسلسلات التلـﭭـزيونية يَمضي مع انقضاء السهرة بدون أَثرٍ مؤْذٍ أَو سلبــيّ، فهو “تمثيل بتمثيل” مع ممثلين من بلدان مختلفة، لكن “الإِنتاج المشترك” في المسلسلات السياسية اليومية لا ينقضي في سهرةٍ ولا في يومٍ ولا في أَشهُرٍ ولا سنواتٍ لأَنه قلَقٌ جاثم على قلوب المواطنين، أَخطــرُ ما فيه أَنه مع ممثّلين سياسيـين من بلدٍ واحدٍ ينطقون بلهجاتٍ سياسيةٍ مختلفَة وَفْـق انتماءاتهم السياسية اللهجوية الـموزّعة على بلدان مختلفة خارجَ لبنان تجعل لبنان ميدانَ اختبارٍ لقوًى تتصارع على ساحته: مرةً بانتخاباتٍ بلدية، ومرةً بتمديد ولايةٍ نيابية، ومرةً بتعطيلِ انتخاباتٍ رئاسية، وكلُّه في النهاية “تمثيل بتمثيل” لا على الشاشة بل علـى الشعب والوطن والمصير.
وَرَدَ في معجم اللغة عن “التمثيل” أَنْ: “مثَّل فُلانٌ فُلانًا” أَي نابَ عنه، و”مثَّل فُلانٌ لِفلان” أَي صَوَّر له بالأَداء، و”مثَّلَ فُلانٌ بِفُلان” أَي نكَّل به. وهنا الفارقُ عندنا بــين “تمثيلٍ تلـﭭـزيوني للشعب” (عابرٍ مع انقضاء الحلقة)، وتمثيلِ الشعب (ممدَّد له حلقة بعد حلقة)، و”التمثيل بالشعب” وهو حلْقة عالقٌ فيـها الشعبُ حتى انقضاءِ معظم هذا الطقم السياسي إِلى ليلٍ طويلٍ بــدون صباح.
هـنـري زغـيـب