تتوالى الدعوات إِلى “أُمسيات” و”مهرجانات” و”إِصدارات” شِعرية غالبًا ما لا يكون فيـها شعرٌ إِلا بالتسميةِ المغتصِبةِ الصفةَ المنتحِلةِ الاسمَ المزَوِّرةِ الهُوية.
ذلك أَنْ بات سهلًا وبدون أَيّ معيارٍ لقبُ “الشاعر” لكل من استسهل فكتب نصًّا على اسم الشِعر، أَو نَظَم أَبياتًا على اسم القصيدة، أَو ثَرثَرَ مقاطعَ عمودية الشكل أَو خليلية التفعيلة لا تكون واقعًا إِلّا كلامًا فارغًا من كل موهبة، عاريًا من أَيّ تقْنية، خاليًا من نبْض الشِعر.
ووسَّعَ انتشارَ هذا “الوباء الشِعري” فتْحُ صفحات الصحف والمجلّات مساحاتٍ فسيحةً لنصوصٍ تَرتَكب إِثم الكتابة الشِعرية في رخص وافتعال وارتجال، فيُصبح بها صاحبـها “شاعرًا” في محيطه وعلى أَغلفة مؤَلفاته.
وزاد هذا الانتشارَ الموبوءَ رُخصًا وافتعالًا ووقاحةً نشْرُ النصوص على صفحاتٍ ثرثارة في وسائِط التواصل الاجتماعي حيث لا رقيب ولا حسيب ولا معيار، فيتنطّح كل “جهبوذ” للكتابة على “موقعه” متأَبطًا لقب “شاعر” يـبـطحه على بطاقات الدعوة إِلى “أُمسية” أَو غلافِ كتابٍ يدعو إِلى التوقيع عليه شلّة مَن “آمنوا” بــ”عبقريته الشِعرية”.
كلُّ هذا ليس من الشعر، وجميع هؤُلاء ليسوا من الشعراء.
الشِعر ليس نصًّا بل حالة. وتاليًا: الشاعرُ ليس نصَّه بل حالــتُــه، وهي إِحدى ثلاث: المشاعر، الرهافة، الإِلهام. إِن لم يكن ابنَ إِحدى هذه الحالات الثلاث، لا جدوى من كلّ ما يكتب، فكلماتُه وقوافيه ذابلةٌ قبل بلوغها القارئ، بدليل شعراء غابوا وما زالوا خالدين عالَـميًّا بكل حُضُور، وشعراء أَحياء بـيـنـنـا محلِّــيًّـا بدون أَيِّ حضور.
الشاعر ليس من “يفرض” على الناس لقبَه شاعرًا، بل مَن يُــكرّسه شِعرُه وقرّاؤُه شاعرًا.
التشبيه والاستعارة والصُوَر البيانية والبلاغية هي مرآةُ المشاعر: إِذا كانت هذه صحيحةً صادقةً تكون لغتُـها بسيطةً تَضُوع بالجمال وتعكس الحالة الصحيحة الصادقة، وإِذا كانت باردةً لا تكونُ سوى أُلعُبانيّاتٍ لفظية بدون إِحساسٍ يتعمّد كاتبُـها تــزويقَـها تعويضًا عن فراغ مشاعره، كأَنْ يطرّز إِيقاعات مفتَعَلة يشحنـها باللفظي الأَنيق والتعابير الرخامية، لكنها تبقى إِيقاعاتٍ مصطَنَعةً جوفاءَ من الحقيقة، خاليةً من المشاعر، عاريةً من الصدق، متوجهةً إِلى مقصودٍ غيرِ موجودٍ يعوِّض الكاتبُ عن غيابه بمحسّنات لفظية وتعابير بديعِية لا هي بديعَة ولا هي نابضة.
الشِعر ليس فقط ما يُقال، بل ما به يُــلهَم، وكيف به يكون التعبير. وكلُّ كتابةٍ لا تنبع من الـ”ما” والـ”كيف” معًا، تَبقى لَفظيةً باردة، منبعُها افتراضيٌّ تـهويمـيٌّ بلا معيار، ومقصودُها تمثالٌ جامدٌ لا تُحركُه كلمة، ولا يُقْنِع الزمنَ الذي يُغربِـل بقَسْوةٍ فلا يُــبقي في ذاكرته سوى إِخلاصٍ صادقٍ هو الذي يَسِمُ خالدًا مَن يستحقّ فعلًا لقب الشاعر.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib