أزرار- الحلقة 924
الصحافة بين الحُرمة والحُرية *
السبت 23 كانون الثاني 2016

          كأَنّ “شارلي إِيـبـدو” لم تتعلّم مما أَصابَ قبل عامٍ طاقمَ محرريها من موتٍ فاجع بسبب استفزازها الديني، فعادت إِلى الاستفزاز العُنصري، مستغلَّةً صورةَ الطفل السوري إِيلان كردي ميتًا على شاطئٍ تركيّ إِبّان محاولة أَهله بلوغَ اليونان هربًا من الموت، ليصوّر كاريكاتوريُّها الطفلَ إِيلان ميتًا في دائرةٍ عُليا، وتحتها رجلٌ يركض لاحقًا بامرأَةٍ هاربة منه مذعورة، وعلّق: “هكذا كان إِيلان سيكبَر ويصبحُ مُطارِدَ نساءٍ في أَلمانيا للتحرُّش بهنّ”. واتّخذ الرسامُ الفرنسيُّ ذريعةً من حوادثِ تحرُّش واغتصاب جرَت في أَلمانيا ليلة رأْس السنة، تبيّن أَن بين فاعليها لاجئين كانت أَلمانيا سمحَت بِــإِيوائهم.

          في رأْس الردُود على هذا الصَلَف كان تعليقُ الملكة الأُردنية رانيا العبدالله على حسابها في الــ”فايسبوك” أَنّ إِيلان لو عاش “كان يمكن أَن يُصبح طبـيـبـًا أَو مُدرِّسًا أَو والـدًا حنونًا”.

          هذه اللفتةُ الإِنسانية من مَــلِــكَــةٍ وأُمّ، تختصر الكثير مما يمكن قولُه أَمام هذه الوقاحة السافلة اتخذَت موتَ طفل بشكل فاجع كي تنتصر بشكل فاقع لنساء عانَين من التحرُّش الجنسي. فهل التحرُّش مقصورٌ على فئة معيَّنة من الناس: على عِرق معيَّن، أَو جنسية معيَّنة؟ أَلم تقع حوادثُ تحرُّش فرنسيةٌ قام بها فرنسيون، أَو أَلمانيةٌ قام بها أَلمان، أَو أُوروﭘــيةٌ قام بها أُوروﭘــيون؟

          في تغطية تلـﭭـزيون “بي. بي.سي” أَنّ احتجاجات الأَلمان في كولونيا وهمبورغ كانت ضد زعيمتهم أَنجلا مِركل لسماحها باستقبال البلادِ وفودَ اللاجئين، وهذا شأْنٌ داخلي بين الشعب ومستشارته، وتدبيرٌ رسميّ أَلماني له ظروفُه. ولم تُدلِ امرأَةٌ واحدة بجنسيّة متحرّش قارَبَها. فما إِذًا كان دافعُ رسّام الكاريكاتور الوقحُ أَن يستغلّ موت طفل مقهور على شاطئ مهجور كي يُلصِق به تَصوُّرَ أَنه لو لم يَـمُت لكان سيغدو متحرّشاً بالنساء؟

          هذه الصحافةُ الصفراء الاستفزازية التي تتناول افتراءات وافتراضات وفضائحيات وتلفيقات، هي أَحطُّ أَنواع الصحافة، بل هي خارج التصنيف الـمعتمِدِ الأَخلاقَ المهنيةَ معيارًا. ويثير اشمئزازَ الناس منها تعويلُها على صورة أَو مانشيت أَو خبر أَو “سبَق صحافي” لـترويج الجريدة وتسويقها حتى لو انهال عليها السباب والتحقير والهجوم، ووسائطُ التواصل الاجتماعي باتت اليوم بلا وازع ولا رقيب.

الفرقُ كبيرٌ بين الحُرمة والحُرية. ليس للتحرُّش الجنسي جنسيّة، ولا للاغتصاب هويّة، ولا للمجرمين طَويّة. واستغلال المآسي لبلوغ أَربٍ آخَر، موضوعُ قرفٍ لا سَـبَـق، ورفضٍ لا إِقبال.

وبــئْـسَ صحافة تعتمد الصورة أَو الخبر لغاياتٍ عرقية أَو سياسية أَو عنصرية، لأَن مصيرَها دومًا: مستوعِبُ النفايات.


* “النهار” – السبت 23 كانون الثاني 2016