“بِدْيِت القصَّـه تحت الشتي… بِــأَوّل شتي حَــبُّــو بـعْـضُـن… وخلصِت القصَّـه بِــتاني شتي… تحت الشتي تَـــركُو بعضُن”.
يطالعُني هذا المطلع من قصيدة الأَخوَين رحباني وأَنا أُتابع هذه الأَيام ما يَحدثُ على المسرح السياسي عندنا من تحالفات واتفاقات ولقاءات وتَـحَــرُّكات واصطفافات وترشيحات ومشاورات وتَـمَوضُعات واجتماعات و”ﭘــوانتاجات” بين أَقطاب السياسة، لترسيخ علاقةٍ أَو ترويج اتفاقٍ أَو تسويق مرشَّحٍ رئاسي،وما يَنْجُمُ عنها جميعًا من إِعلان نَوايا وتوضيح خَبايا وتصحيح خَفايا، منها أَمام الكاميرات في الأَماكن الـمْطْلَقَة، ومنها خلف الكواليس في الغُرَف الـمُغْلَقَة، والشعب يتلقّى، والشعب يُــتابع، والشعبُ يَغيب، والشعب يـَخيب، وليس في مقدُوره أَيُّ نصيب.
منذ عشرين شهرًا والشعبُ ناطر وصابر، يراقب قصرًا في بعبدا مهجورًا في انتظار مَن يأْتيه فيقودُ البلاد. ومنذ عشرين شهرًا وهو يرقُب ويترقّب قادةً يتحالفُون يومًا ويتخالفون يومًا آخَر، يَجتمعون يومًا ويفترقون يومًا آخَر، يُقيمون مهرجاناتٍ تتحوّل متاريس ضدَّ بعضهم بعضًا فيَزيدون في تفرقة الشمل، ثم يُقيمون احتفالات لـجمْع الشمل تحت عنوان طيّ الصفحة السوداء، ويكونُ ماتَ مَن مات، وهاجَر من هاجَر، وانكسَر على الخيبة مَن انكسَر، لأَن الذاكرة الشعبية لا تَـنسى، ومهما تلاقى الزعماء على منبر مرتفِع أَو منصّة عالية أَو لقاء قِمَمي، فالذي تحت-الشعبُ الذي تحت- لا يَنبهر بالمنبر المرتفِع ولا بالمنصَّة العالية ولا باللقاء القِمَمي، ليس لأَنه يريد أَلاّ ينبهر بل لأَن ذاكرته الجماعية لا تنسى وهي واعية صاحية تذكِّرُهُ بأَنّ ما كان بالأَمس قد يتجدَّد غدًا، كما تحالفاتُ الأَمس تحوَّلت اليوم خصومات، وخصوماتُ الأَمس انقلبَت اليوم تحالفات، ومنازلاتُ الأَمس تحوّلَت اليوم تـنازلات… كلُّ هذا والقاعدة الشعبية تُتابع وتَتحمّس وتأْمَل وليس لها رأْيٌ سوى اتِّباع الذي تتَّفق عليه القمة.
لكن العُقدة كلَّها هنا: بين القمّة والقاعدة، فليس ما يتَّفق عليه الزعماءُ في القمّة تتَّفق حُكْماً عليه القاعدة، وليسَ عناقُ الزُعماء في مرابعهم يُترجمه حُكْمًا عناقٌ في القاعدة، إِلاّ نفرٌ من هذه القاعدة هو القطيع الذي يَسير كيفما يريد قائدُه، ويغيِّر مسارَه عندما يريد قائدُه، مستسلمًا للقائد مستزلِـمًا له راضخًا لـمَشيئته ومصالَـحاته ومَصالحه الفَوقية التي يتقبَّلُها قطيعُه بدون نقاش.
وبين السباق إِلى رئاسة الجمهورية وسباق الجمهورية إِلى العودة من انهيارها، فارقُ ما بين تحالُف القمّة وتخالُف القاعدة، بين تَبدُّل مواقف الزعماء في القمّة وقلَق القاعدة من تَبدُّل التَبدُّل في مواقف الزُعماء، بين مصالح الزعماء فوق ومصالح الناس تحت، أُولئك الناس الذين يُراد لهم التصفيقُ الأَعمى مهما قرَّر الزُعماء الذين عند تَبدُّل مصالحِهم تتبدَّل تحالفاتُهم.
وتعود إِليَّ قصيدةُ الأَخوَين رحباني: “شو نفْع البِكي… وشو إِلو معنى بعد الحكي، ما زالا قصَص كبيرِه بتخلَص بكلمِه زغيرِه… كانت القصَّه تحت الشِتي، بِـأَوّل شتي حَـبُّـو بعضن، وخِلْصِت القصَّـه بتاني شِتي، تحت الشِتي تَركو بعضُن… حَـبُّـو بعضُن… تَـــرَكُـو بعضُن… حَـبُّـو بعضُن… تَـــرَكُـو بعضن”.