نعم… نعم… نعم… هكذا، وبكل بساطة: أَلغى رئيسُ الجمهورية جميعَ الاحتفالات بالذكرى الرابعة والخمسين لاستقلال البلاد، وأَمَـرَ بالنُزول إِلى الشارع لا للاعتصامات ولا للهَوْبرات ولا للتظاهرات بل… لِــلَمّ النُفايات من الشوارع، وأَطلق نداءَه الصارخ: “عيبٌ علينا أَن نصرف من خزينة الدولة على احتفالات الاستقلال، وفي بلادنا إِصاباتٌ بالكوليرا”.
الصادمُ أَكثر أَن رئيس الجمهورية لبِسَ ثياب الشُغل ونزلَ إِلى الشارع حاملاً مكنسةً كبيرة وأَخذ يَلمُّ النُفايات ويَكْنسها ويَحمِلها إِلى المستوعبات الخضراء، يعاونه في ذلك سَلَفُه رئيسُ الجمهورية السابق وبعضُ كبار المسؤُولين في الدولة.
هذه ليست حكايةً من نسْج الخيال ولا أُسطورةً من روايات الكتب. إِنها ظاهرةٌ تمَّت نهار الأَربعاء الماضي في “دار السلام”، كبرى مدن تانزانيا وعاصمتِها الاقتصادية، ببادرةٍ من رئيس جمهوريتها جون ماغوفولي Magufuli المنتخَب رئيساً قبل خمسة أسابيع (في 5 تشرين الثاني). وفور انتخابه أَقال عشراتٍ من كبار موظَّفين ثَبُتَت عليهم تُهمة هدر المال العام والفساد الإِداري والصفقات غير القانونية وتهريب عمليات تجارية بدون دفع ضريبة الدولة، وأَحالهم جميعاً إِلى القضاء العاجل مجرَّدين من كل حصانة.
وفي حفاظه على المال العام أَلغى احتفالات الاستقلال التي كانت تجري بأُبَّهةٍ فخمة تكلِّف الدولة الملايين، وأَلغى سفر الرسميين على حساب الدولة إِلاّ عند الضرورة القصوى لصالح الدولة، ومنَعَ الوزراء والنواب من شراء بطاقات سفر بدرجة رجال الأَعمال، وأَمَرَ بعقد جميع اللقاءات والمؤتمرات والاجتماعات في مباني الدولة الرسمية لا في فنادق فخمة كما كان يجري سابقاً.
وأَكثر: اختار من بين التكنوقراط رجلاً معروفاً بالاستقامة ونظافة الكف: قاسم ماجالِــيْــوَى، وعيَّنه رئيس الحكومة طالباً إِليه اختيار وزراء ناصعي الحاضر والماضي لا شُبهة عليهم ولا تهمة فساد ولا ثراء غير مشروع، وذلك لمحاربة الفساد في مفاصل الدولة، معلناً سياسةَ تقشُّفٍ صارمةً تعيد إِلى البلاد توازنها الاقتصادي والمالي السليم.
وأَكثر بعد: تلافياً لانتشار الكوليرا في كلّ البلاد (ما نبَّهتْه إِليه منظمة الصحة العالمية) أَرسل بعثاتٍ داخليةً إِلى البيوت في جميع المدُن والقُرى للتأَكُّد من نظافة البيوت وعناية المواطنين بصحتهم ونظافتهم.
مواطنو “دار السلام” كانوا مذهولين لرُؤْية رئيسهم حاملاً مكنسةً ويلمّ النفايات، وانتشرت صورتُه تلـﭭـزيونياً في كل تانزانيا والعالم، وصَـرَّح سَلَفُه الرئيس السابق جاكايا كيكْوِيْتّي: “أَنا فخورٌ جداً بِـإِجراءات رئيسنا الجديد لـمحاربة الفساد والهدر المالي، وهو ما لم أَستطع تنفيذَه خلال ولايَــتَــيَّ الرئاسِـيَّــتَــين المتتالـيَـتَــين على رأْس البلاد”.
نعم: هذه بلادٌ يأْمرُ رئيسُها شعبَها أَن يُـعَــيِّــد ذكرى الاستقلال بكنْس الشوارع من النفايات.
أَمام هذه الظاهرة الفريدة، يبقى لنا أَن نُهنّئَ أَهل تانزانيا برئيسهم، وأَن نرى فيه مثالاً ونموذجاً وأُمثولة لكلّ رئيس جمهورية كما رئيس تانزانيا، وأَن “تَـــتَـــزَنْـــزَن” كلُّ بلادٍ برئيسٍ يَسير في مقدِّمة شعبه فيَشدُّ عصَبَ مواطنيه للقضايا الـمُلِحَّة، ويجعَل البلاد وشعبَها هَـمَّـهُ الرئيس، فيكونُ صورةَ نَــبْــض البلد بشخصيته وآرائه وأَفعاله، ولا يكونُ مُـجَــرَّد صورةٍ… معلَّقةٍ على الحيطان.