في السائِد سؤَالٌ يتردّد: “لـماذا يَكتُب الأَديب”؟ وسؤَالٌ آخَر شبيه: “لـِـمَن يَكتُب الأَديب”؟
وبين الــ”لِـماذا” والـــ”لِـمَـن” يُـتابع الكاتبُ والـمُراقبُ ظاهرةَ الشِـحّ الـمُـتزايد في إِقبال القرّاء على اقـتـنـاء الكتاب، بعضُهم قُصوراً عن القُدرة الشرائية، والآخَر إِشاحةً عما لم يعُد يرغب في قراءته وضَمِّه إِلى مكتبته.
على أَنّ سُــؤَالًا جوهرياً هو المطلوبُ تسـآلُه والبحث عن جوابه: “ماذا يكتُب الأَديب”؟
بدءًا أَرى أَنّ الكاتب الذي يكتُب له وحده فَـلْـيُــبْــقِ نصوصَه في دُرْجه ولْيقرأْها لِـخلاَّنه. أَمّا وهو يكتب للقارئ فعليه احترامُه لا بمعنى أَن يكتب ما يحبُّ هذا الأَخير بل ما يودُّ الكاتب أَن يوصل إِلى قارئه من دون أَن يساوم على مستوى كتابته إِرضاءً لهذا القارئ.
ولأَن القارئَ شريكُ الكاتب، وَجبَ على هذا الأَخير احترامُ شريكه بكل مسؤُولية ومهنية، فلا يقدِّم له ما لا يُطيق. وهذا ما يفسِّـر في معارض الكتب إِحجام مرتاديها عن مؤَلفاتٍ ترجع بعد المعرض مُكدَّسة إِلى مخازن الناشر أَو خزائن المؤَلِّف، ولا يَدَّعِـيَـنَّ الكاتبُ عندها أَنّ الكتاب لم يَعُد مطلوبًا وأَنّ القراء يَشِحُّون ويُشِـيحون.
مع انتشار وسائل الاتصال الحديثة ووسائط التواصل الأَخيرة، لم يعُد للكاتب عُذْرُ أَلاّ يُعْلِم جمهور قرائه بجديده. غير أَنّ هذا الجمهور لن يُقْبل على الكتاب الجديد إِن لم يكن يعرف كاتبَه أُسلوبًا، أَو عنوانَه موضوعًا – عدا ظاهرة العلاقات الاجتماعية في مناسبات تواقيع الكتب حين يُقْبل “الأَصدقاء” لياقةً ورفعَ عتَب – ما يعني أَنّ الكتاب الجيّد، نصًّا ومعالجةً، شِعرًا أَو نثرًا، يشُقُّ طريقه إِلى قرائه في زمانه ولاحقًا، أَيًّا يكُن الإِقبال عليه أَو الانصراف عنه لدى صدوره أَو في جناح معرض الكتاب.
إِذا أَشاح القراء عن الشعر فالشاعر السَـيِّئ مسؤُولٌ لا القراء، وإِذا ابـتَـعدُوا عن الأَدب الـمُعَقَّد الـمُـبْـهَم فالأَديب هو المسؤُول. القراء يقْبلون، عاجلًا أَم لاحقًا، على العمل الجيّد بدون ترويج أَو ندوات كرنــﭭــالية لإِطلاقه.
“ماذا يَكتب الأَديب؟” سؤَالٌ جوهريٌّ يخاصره شقيقٌ مُلازم: “كيف يكتُب؟”. سرُّ الإِبداع في الــ”ماذا” والــ”كيف” يصِل الأَدبُ، شِعرُه والنَـثْـر، نقيَّ المضمون، بهيَّ الشكل، سَـنِـيَّ الدخول إِلى ذائقة القارئ.
الجمالُ ينادي عشّاقه ببساطته ووضوحه، وكلُّ ما دون هذا الجمال لا يستحقُّ الدخول إِلى حَـرَم الأَدب ولا يستاهل من القارئ فاصلةً من عُمر.
الأَدب الخالد وصَـلَنا وحده بـدون مصفِّقين ولا مروِّجين ولا بطاقة توصية.
فليكُن في بال الكاتب، وهو يكتب، أَنه لا يكتب لجيله فقط، بل لأَجيالٍ مُقْبلة لم تُولَد بعد.
* “النهار” – السبت 5 كانون الأَوَّل 2015