كأَنما افتـتاحُهُ الجديد، وسْط اضطرابٍ سياسيّ واجتماعيّ واقتصاديّ يلفّ لبنان، جاء نُـوراً يدُلُّ على دوامِ عافيةٍ في شرايين بـيروت لن يُضعفَها قدَر.
مـرّتين زرتُه وفي كلتَيهما عاينتُ ما يُـبـهِج: زوّاراً ومثقّفين يرتادُونه أَفراداً ومجموعات، وتلامذةَ مدارس يتكوكبون أَفواجاً متـتابعة مقتبِلي العيون بين قاعات المتحف وأَروقته كأَنَّما، منذ باحتِه الخارجية، يفصلُهم سُورٌ عـمّا تعانيه العاصمة من قلق وإِرباك.
ويكون أَنّ في المتحف اليوم (وللشهرَين المقبلَين) معرضَ “نظرات على بيروت” ضامّاً 160 سنةً تشكيلية من سيرة مدينتنا الغالية بين 1800 و1960، في 300 لوحة زيتية ومائية وفوتوغرافية وبالقلم الرصاص والحبر الصيني، نقرأُ فيها أَيامَ كانت بيروتُ القرن التاسع عشر في حجم ساحةِ ضيعة، دَسكرةً على شاطئ، غارقةَ البيوت والبساتين في سُكونٍ عميقٍ لا يخترقُـه سوى رفّ عصافير مهاجرة، أَو صفير باخرة تُشَـطِّط في مرفإِ المدينة.
وفي المتحف معرضٌ آخر عن “بـيروت الكوزموﭘـوليتية”، ومكتبةٌ تضُمُّ ذاكرة المتحف منذ إِنشاء “معرض الخريف” سنوياً فيه سنة 1961، ومعرضٌ نادر من أَرشيـڤ فؤاد دباس الفوتوغرافي الفريد بآلاف الصوَر عن بـيروت وسائر لبنان من أَواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين.
على مدخل المتحف تمثالُ الشهداء الأَوّلُ الذي كَـلَّفت سلطة الانتداب الفرنسية النحاتَ يوسف الحويك صنعَه لاستذكار شهداء أَيار 1916، فنفّذه سنة 1930 وركّزه جنوبـيّ “ساحة الشهداء” رامزاً إِلى امرأَتين مسْلِمة ومسيحية تتصافَحان، واستقبلتْه جريدة “المعرض” على صفحتها الأُولى بأَنه “كلّه من الأَرض اللبنانية: صلصالُه لبنانيّ، حجرُه لبنانيّ، نحّاتُه لبنانيّ، وفكرتُهُ احتوتْها مُـخيّلة لبنانية”. لكنّ اعتبارَ رمزِه خُنوعاً لا عنفواناً، أَثارَ جدلاً أَدى إِلى إِزالته سنة 1948.
هذه “الواحة السُـرسُقية” منارةٌ باهرة على ميناء لبنان الثقافة، تُـعـوِّض عن ظلام لبنان السياسيّ، وتُـثبت أَنّ الثقافة في لبنان هي الأَبقى والأَرقى والأَنقى، وهي التي دائماً، بأَعمالها وأَعلامها، تُـرصّعُ لبنان على خارطة العالم.
الشاهدُ من مقالي: حَــثُّ المدارس، رسميِّها والخاص، على اصطحاب التلامذة إِلى زيارة متحف سرسق. ففي عين التلميذ دهشةُ التقاطٍ تَبقى طويلاً في وعيه المعرفي مطبوعةً في ذاكرة غَدِه زيارةً مثمرة وجولةً مفيدة ومتحفاً لن يَـنـسى ما شاهد فيه واكتسب.
وما أَقولُه عن المدارس أَقوله عن الإِعلام، مرئـيِّـه ومكتوبِـه والمسموع، وهو اكتفى بتغطية افتـتاح المتحف فيما يَجدُر به أَن يخصِّص حلقاتٍ كاملةً ومقالاتٍ لافتةً لإِبراز هذا الـمَـعْـلَـم الثقافي قَــبَساً للمواطنين، وللسُـيّـاح حين نسترجعهم.
لنا اليوم، ولأَجيالنا الجديدة، عنوانٌ حضاريٌّ نباهي به: متحف نقولا سرسق.
* “النهار” – السبت 28 تشريـن الـثـاني 2015