نقطة على الحرف- الحلقة 1225
بين الـتـحـفـيـز والـتـنـفـيـر
الأَربعاء 14 تـشرين الأَول 2015

        ليس مَن يُنكر أَنّ التحَرُّكات الشعبية أَخيراً هَزهَزَت الرأْي العام وكسرت لديه التردُّدَ في أَن يَلحظَ ويُعبّر.

          وليس مَن يُنكر أَنّ الجدار الذي كان عالياً بين الشعبِ وأَركانِ الحكم بدأَ يتحتَّت ويتفتَّت ويتشتَّت، وأَخذَ أَركانُ الحُكْم يحسبون حساباً لبعضٍ من الشعب يرفض بالصوت العالي أَن يكونَ جُـزءاً من القطيع، فتحرّكوا لبعض استدراكٍ ولو نافلٍ ومتأَخِّر.

          لكنّ كلّ تَـحَرُّكٍ شعبيٍّ يلزمُه هدفٌ واضحٌ وتوَجُّهٌ واضحٌ ومطلبٌ، ولو متعدِّدٌ، واضحٌ بعيداً عن حلقات الدبكة والغناء والصياح والهوبرة والزجل والصراخ والشتائم والتهجُّمات الشخصية وشعاراتٍ منها ممسوس ومنها مدسوس ومنها مهووس.

          المشهد الذي استفاق عليه الشعب صباحَ الجمعة الماضي أَمام جريدة “النهار”، لم يكن أَثَر معركةٍ حربية ضد العدوّ، بل حصيلةَ عملٍ أَرعنَ طال القوى الأَمنية والأَملاك الشخصية بحقْدٍ أَسودَ لم يَصِل إِلى مكانٍ، ولم يُوصِل أَصحابه إِلى هدفهم المشبوه.

          والأَكيد أَنْ لولا كاميراتُ التلـﭭـزيون التي كانت تنتشي بنقْل الخراب والتخريب، لَـمَا كان حصل معظمُ الذي حصل.

          ولولا تَـبرُّعُ محطات التلـﭭـزيون بفتح أَثيرها ساعاتٍ طويلةً لنقْل مَشاهد الفوضى واستصراح الناس في الساحات، لَـما كان نزَل إِلى الساحات نصفُ مَن نزَلوا.

          ويَزيد من لغْط الاستصراح ما بات كأَنه “تلـﭭـزيون الواقع” بكل عُريه وبشاعته وسطحيّته مع مذيعات ومذيعين يُصرُّون على التغطية بالفصحى وهم يُوَأْوِئُــون ويُــتَــأْتِــئُــون ويتفركشُون بكلماتهم الفصحى، ويخاطبُون زملاءَهم في الستوديو ولا يسمعُون، فيقول مَن في الستوديو: “هل تسمعِينني؟” وتُجيب مَن في الشارع: “هل تسمعُني؟”، وكما في مشْهدٍ مكسيكيّ مُدَبْلَج يَضيع الـمُشاهد بين “هل تسمعُني” و”هل تسمعِينني”، والخرابُ يَـزداد خراباً، والوضْعُ يَـزداد يَـباباً، والبلدُ يَزداد عَذاباً، وَوَسَطُ المدينة يُقفل رزقَه باباً بعد باب بعد باب.

          بين التغطية المسؤُولة والتغطية الفضائحية: مسافةُ ما بين الشجاعة والتهوُّر.

          وبين التأْتأَة بفصحى كاريكاتورية والنقل بفصحى سليمة: مسافةُ ما بين اللغْـوِ واللغَة.

          وبين الأَمانة رغبةً في الموضوعية وافتعال الـمَشاكل رغبةً في السبَق الإِعلامي: مسافةُ ما بين بناء صورة الوطن وتهشيم صورته.

          لن أَزيد أَكثرَ في هذا الموضوع بعدما أَخيراً تناولَه كثيرون، لكنّ ما نَشهدُه في الشارع ليس ما كان يرمي إِليه الذين بدأُوا بالتحرُّك الشعبي من أَجل تحفيز الشعب، بل بات ينحو إِلى تنفير الشعب.

          وبين التنفير والتحفيز يَكمُن الفارق الجوهريّ بين مَن يعمل جاهداً لـتطبيق النظام، ومَن يعمل جاهلاً لتهديم النظام.

          وبين التطبيق والتهديم يتبيّن الـمُواطن الصالح من الـمُواطن المدسوس.