كأَنّما للسقوط عدوى تحملُه من بيئةٍ إِلى ما حَولَها فيتعمَّم في كل بيئة، ما يجعل الزمن الذي نَعبُر حالياً في نفَقِه المظلم يهوي إِلى السقوط.
فبعدما كانت الأُغنية اللبنانية، بين مطلع الخمسينات ونهاية الثمانينات، زهوةَ الفن في العالم العربي، نُصوصاً وأَلحاناً وأَصواتاً واحترامَ جمهورٍ بتقديم مبدعين لبنانيّين أَفضلَ روائعها، أَخذت جذوعُها تتخلخل نُصوصاً وأَلحاناً وأَصواتاً حتى بلغَت اليوم أَدنى درجات القحط والسخف والبشاعة، وباتت الأُغنية اللبنانية هجينةً رخوةً تافهةً دخيلةً على الفن والذوق والمستوى.
فهذه كلماتُ واحدٍ مستعدّ لضَرب زوجته انتصاراً لوالدته، وتلك واحدة تعلن أَنها ستقتل من يخطف منها حبيبها، وذاك الأَشْوَس يتلفَّظ في أُغنيته بكلماتٍ نابية بذيئة، إِلى لفظٍ مائع خانع لا يحترم حروف المدّ ولا مخارج الحروف السليمة ولا الأَداء الصحيح.
وهذه أَلحانٌ بدون أَيِّ ميلوديا، وتخدش السمْع بقرقعة آلات وخبْط طبول ودربكّات تعلو على صوت الغناء فتولّد في السامعين التوتُّر والإِزعاج وفسادَ الذّوق العام والمنطق السليم.
وهذه أَصواتٌ لا علاقة لها بالغناء ولا بالأَداء، تصرخ أَو تُـعْـوِلُ أَو تصيح أَو تموء بلا قاعدة ولا معيار ولا مقياس ولا ضوابط، حتى بات الغناءُ شُغْل من لا شُغْل آخَرَ له.
بسبب هؤُلاء الـرُّعناء الأُمّــيّــين بلغَت الأُغنية اللبنانية اليوم أَحطَّ مستوى من الأَخلاق الفنية والتقنية والأَدبية.
ويُفاقمُ هذا الوضعَ بَــثُّها من إِذاعاتٍ تضرب بها ذوق المستمعين بحجة أَنها “مدفوعة” لأَن المنتج أَو المغنّي يُرسل الأُغنية إِلى الإِذاعة مع “شيك” يفرض تكرار بــثّها عشرات المرات في اليوم الواحد، أَو تَبُــثُّها أَقنيةٌ تلـﭭـزيونية “كليـﭙـّات” لا منطق لـمَشاهِدها المتتالية السريعة من دون تبرير لهذا المشهد أَو ذاك تَرابُطاً مع كلمات الأُغنية.
ويزيد من تفاقُم هذا الانتشار السخيف للأُغنيات السخيفة أَنه جعَل الجمهور يتلقّى سخافتَها ويصفِّق لهؤُلاء المغنّين والـمغنّيات ويُهَوْبِرُ لهم في الساحات والفنادق والمطاعم والمهرجانات والحفلات أَنّى تكن، فتزداد قناعة أُولئك “النجوم” بـــ”جماهيريّــتهم”، ويزدادون سخافةً وجهلاً وصراخاً بميكروفون يضعونه تحت إِبطهم ويصفِّقون تحميساً لـ”الجمهور الحبيب”، أَو يضعونه في بلعومهم ويصيحون فيه باسم الغناء. أَما الـمغنّــيات فلا كلامَ يكفي لسَرد السخافة في كلماتِ أَغانيهنّ وأَلحانها الرخيصة وتقديمها بـــ”مُستنداتهنّ” لا بأَصواتهنّ.
إِنه زمن السقوط يتفشّى فيطال المستوى الفني. ولن تُـنقذَنا منه إِلاَّ نُصوصٌ وأَلحانٌ تُعيد الأُغنية إِلى معيارها الأَوّل: كلماتٌ تنضَح شِعراً، وأَلحانٌ تَبُثُّ جمالاً، وأَصواتٌ تَنقُل المتلقّي من مجرّد السَّماع إِلى لذّة الإِصغاء الدائمة.
* “النهار” – السبت 10 تشرين الأَوَّل 2015