نقطة على الحرف- الحلقة 1224
حكايــةُ النُصُبِ الصامِت والــنَّــصْــب الــثــرثـــار
الأَربعاء 7 تـشرين الأَول 2015

        بعد الاحتفال السبتَ الماضي بتدشين نُصُب فؤاد سليمان في بلدته فيع، وما تحدَّثَ عنه الخطباء من أَصداء صاحب “درب القمر” وكلماتِه التي كأَنها مكتوبةٌ اليومَ لجمهورِ اليوم، خرجتُ وأَنا أُفكِّر بماهية النُّصُب وكيف يُشْكِلُ على كثيرين لفْظُه فيقولونه “النَّصْب”.

          في التحديد القاموسي أَن “النُّصُب” هو “الشيءُ المنصوب وكُلُّ ما جُعِلَ عَـلَماً”، وأَنَّ “النَّصْب” هو “الداء والبلاء والغاية السيِّـئـة”.

          وهنا الفارق الكبير الذي يُشْكِل على الناس.

فالنُّصُب رمزٌ صامتٌ لاستذكار صاحبه الذي يَـبقى حياً، عَبْر نُصُبِه، مُذكِّراً بآثاره ومآثره وأَثَره في الناس والمجتمع والوسَط الأَدبي أَو الفني أَو الإِبداعي الذي هو فيه، وتالياً يَـمرُّ به الناس شاخصين إِليه إِجلالاً، مُتَذكِّرين صاحبَه بالخير والإِعجاب والاعتبار.

          بينما النَّصْبُ رمزٌ ناطقٌ يتنقَّل به صاحبُه مُثَـرثـراً مُرغياً متكلِّماً مهيمِناً بصوته على محيطِه، وسامعُوه لا يُعيرونه أَيَّ اهتمامٍ أَو تقدير لعِـلْمهم أَنه نصْبٌ، وأَنَّ كلامَه نَصْبٌ، وأَنَّ كلَّ ما يقوله آتٍ من النَّصْب أَو آيلٌ إِليه، وتالياً يُـمْسي نُطْــقُه أَخرسَ بلا صَدى لأَنه أَصلاً نَصْبٌ مزيَّف لا احترام له.

          وإِذا النُّصُبُ، بصمتِه البليغ الناطق، يرمز إِلى ناحيةٍ واضحةٍ من مزايا صاحبه، فالنَّصْب، بثرثرتِه الفارغة مهما طَنْطَنَتْ، يمتدُّ على نواحٍ كثيرةٍ تنبَع من زَيْف صاحبه. ففي السياسة نَصْب، وفي التجارة نَصْب، وفي الاجتماعيات نَصْب، وفي التعامُل المالي نَصْب، وفي كل قطاعٍ من الحياة العامة نَصْبٌ وناصِبُون ونَصّابون، وغالباً فيه منصُوبون تنطلي عليهم حِيَلُ النَّصْب وأَحابـيل النَّصَّاب، إِنما إِلى حين يكتشفُ المنصوبُ عليهم زيفَ ذاك النَّصْب فيرعَوُون ويرتدعون عن سَماع صاحبه واحترامِه، وسرعانَ ما يَنسَون نَصْبَه وتنصيباتِه، بينما النُّصُب باقٍ مديداً على احترام الناس إِياه كلّما مَـرُّوا به وتذكَّروا باحترامٍ صاحبَه الغائبَ الحاضرَ في ذاكرتهم.

          هذا الأَمر يذكِّرني بقصيدة الياس أَبو شبكة سنة 1945 في احتفال رفع الستارة عن تمثال فوزي معلوف على مدخل “حديقة الشعراء” في زحلة، إِذ ختم أَبو شبكة قصيدتَه بهذا البيت:

                             لَرُبَّ حَـيٍّ غَـدا في قومِه حَجَراً       وَرُبَّ مَيتٍ غَدا حيّاً به الحَجَرُ

          فما أَقلَّ ما في مجتمعِنا من نُصُب صامتٍ ينطِقُ الناس بذِكْر صاحبِه خَــيراً، وما أَكثر ما في مجتمعنا من نَصْبٍ ناطقٍ يُخْرِسُهُ الناس بعدم تصديقِهم إِياه لقَناعتِهم أَنَّ ثَرثَرتَه – مهما طالَت وعَلا صوتُه فيها أَو علَت يدُه أَو عَلَت قَبْضتُه في الهواء – باقيةٌ ثرثرةً فارغةً خرساءَ جوفاءَ لا صدى لصوتها أَياً تكُن لصاحب الصوت هالَــتُه المزيَّفةُ الفارغة.