حرفٌ من كتاب- الحلقة 237
“لبنان الثورات الفلاّحية”
الأَحـد 6 أيلول 2015

Hikmat Haddad          كأَنما قدَرُ لبنان، منذ فجر تاريخه، أَن يمرَّ كلّ حِقْبة من الزمن في انتفاضاتٍ وثوراتٍ وحروبٍ لتصويب مسارٍ أَو لتقويم مسيرةٍ أَو لترميمِ نهجٍ أَو لتأْسيسِ حُكْم.

          وفيما يضجُّ لبنانُ اليوم بتحرُّكاتٍ شعبية – بعضُها هَوْبَرَاتٌ انفعالية لتعييش زعيمٍ أَو قائدٍ وتأْليهِه وتمجيدِه، وبعضُها مُـحِـقٌّ لشعبٍ يُطالب بـمعيشاتِه اليومية البديهية من كهرباء ونزْع نفايات وتجاوزات سياسيين-، نُتابع تحرُّكاتٍ شعبيةً تهبُّ ضدّ حُكمٍ ما زال منذ سنواتٍ طويلةٍ بعيداً عن الشَعب ومصالحه ومستقبل أَبنائه.

          في هذا السياق، أَمامي الآن كتابُ “لبنان الثورات الفلاحية في القرن التاسع عشر” للدكتور حكمت الحدّاد صدر سنة 1994 في 336 صفحة قطعاً كبيراً، وفي تسعةِ فصولٍ مُفَصَّلةٍ أَحداثاً وتواريخَ وأَعلاماً، تسرُدُ انتفاضةَ الفلاّحين ضد إِقطاعٍ سياسيٍّ كان يتحكَّم بالشعب قهراً وإِذلالاً وإِجحافاً.

          في المقدمة يشير المؤلف إِلى أَنّ “لبنان في القرن التاسع عشر عرفَ تجمُّع شعوبٍ وثقافاتٍ حملَت إِليه بُذُورَ صراعاتٍ تتعارض أَو تتقاطع ولّدَت على أَرض لبنان تفاعلاتٍ وأَحداثاً اجتماعيةً وسياسيةً ذاتَ طابع تَصادمي عنيف كان ينتهي بحلٍ يُسمّى التعايش”.

          نتيجةً للأَحداث المتعاقبة في القرن التاسع عشر بين عامياتٍ وحركاتٍ وفِتَنٍ وتغَيُّراتٍ، انخلطَت التركيبةُ الديموغرافية والسياسية والطائفية، وانقلب الكيانُ اللبناني في جبل لبنان، خصوصاً بعد معركة عين دارة التي رسمَت سنة 1711 خارطةَ هيكليةٍ سياسيةٍ إِقطاعيةٍ في الجبل، ومحطةً تاريخية نجمَت عنها توجهاتُ الإِمارة سياسياً وكيانياً سنينَ طويلةً بعدها إِلى أَن كان “لبنان الكبير” اتحاداً طبيعياً لكيانَين سياسيَّين طائفيَّين: جبل لبنان والإِمارة في عهد المعنيين وبداية عهد الشهابيين، واستجابةً تاريخيةً للكيان الجغرافي التاريخي للبنان القديم.

          بعدما عالج المؤلف الواقع الاقطاعي الاجتماعي والاقتصادي الذي أَدّى إِلى انفجار العاميات، بدأَ يسرد تلك الثورات المتتالية منذ عامية حمانا الأُولى سنة1800 والثانية سنة 1805، ثم عامية أَنطلياس الأُولى سنة 1820 وعامية لحفِد سنة 1821 وعامية حرش بيروت سنة 1838 فعامية أَنطلياس الكبرى سنة 1840، ثم كانت ثورةُ الفلاّحين في كسروان ضد إِقطاع المشايخ الخازنيين سنة 1858بقيادة طانيوس شاهين، وصولاً إِلى أَحداث 1860، وما كان لتلك الثورات والانتفاضات من تأْثيرٍ أَدى سنة 1920 إِلى إِعلان دولة لبنان الكبير.

          كتابُ “لبنان الثورات الفلاّحية في القرن التاسع عشر” شهادةٌ موثَّقة للخَضّات التي كانت تهزّ لبنان كلَّ فترة وكلُّ هزّةٍ منها تَؤُول إِلى فجرٍ جديدٍ في أَيام لبنان.

          على أَمل أَن يكون ما يمرُّ به لبنانُ اليوم فجراً جديداً طالعاً من ليل الطائفية إِلى صباح العَلمانية، ومن نُفاياتٍ سياسيةٍ متراكمة في تاريخ لبنان منذ سنوات وعقود، إِلى عهدٍ جديد يُؤَسّسُه رجالُ دولةٍ حُكَماءُ علماءُ يَـبنون لبنان على أُسس عصريةٍ بعيدةٍ عن الطائفية والاقطاعية، وعن مـحسوبـياتٍ زبائنيةٍ سياسية تُــهَــوْبِــرُ في الشارع لخدمة “القائد الـمُلْـهَم” عوضَ أَن تُطالبَ بدولةٍ يكونُ فيها الـحُكَّام في خدْمة الدولة والشعب ومستقبل الوطن.