في المشهد الثاني من الفصل الثاني لـمَسرحيّة “هَـمْـلِت” يَصرخ شكسـﭙـير بصوت “هَـمْلِتْ”: “كَلِمات… كَلِمات… كَلِمات”.
ولعلّ هذه الصرخةَ أَفصحُ تعبير عن مَـجّانيةٍ تَحمِلها الكلماتُ حين تَصدُر عن كاتبٍ أَو خَطيبٍ غيرِ مسؤُول يُلقي كلماتِه في انفعالٍ مُسطَّحٍ بدون مسؤُولية ولا معيار، فتُلاقي كلماتُه صدىً متفاوتاً لدى قرائه أَو سامعيه يتبَنُّونها أَو يَـبنُونَ عليها.
هذا لأَقولَ كَم الكلمةُ خطيرةٌ ومسؤُولةٌ ويجبُ التعامُلُ معها بمسؤُوليةٍ رائيةٍ، وعدمُ التفريطِ بها في أَيِّ مجالٍ وعلى أَيِّ منبر.
الاستهانةُ باستعمالها تُـؤَدِّي إِلى فَلَتان المعايـير والمقاييس والقيَم الأَخلاقية والاجتماعية والأَدبية، فيستعملُها أَيٌّ كان في أَيِّ مكان لأَيِّ عنوان، وخصوصاً حين تَستخدم “أَفعل التفضيل” بدون وازع: هذا “أَفضلُ قائد”، ذاك “أَعظمُ زعيم”، تلك “أَقدسُ أَرض”، هذه “أَجملُ صورة”، إِلى سائِر الــ”أَكبر” والـ”أَهَمّ” والـ”أَوَّل” والـ”أَصلح”، حتى غدَت “أَفعل” التفضيل أَداةً سهلةً للأَفكار السهلة.
قد يكون قائدٌ فاضلاً صالحاً في موضع أَو موقف، لكنه ليس بالضرورة “أَفضل قائد”.
وقد يكونُ المكانُ جميلاً، لكنه ليس بالضرورة “أَجمل مكان”.
وقد تكون هذه الوسيلة الإِعلامية في طليعة الإِذاعات أَو التلـﭭـزيونات لكنها ليست بالضرورة هي “الأُولى” و”الأَهَمّ” و”الأَبرز”.
وقد تكون بقعةٌ من أَرضٍ ذاتَ تاريخٍ روحيٍّ معيَّن، لكنها ليست بالضرورة “أَقدس أَرض” أَو “بقعة مقدَّسة”.
هذا التعميمُ الحاملُ دوماً “أَفعلَ التفضيل” يؤْذِي صاحبَه ويُضرُّ بالمعنى ويُفسِدُ عقلانيةَ الحديث وموضوعيةَ النص.
يصحُّ ذلك في سياق المدح أَو الرثاء أَو كرنـﭭـالات التكريم ومنبرياتٍ تعتمدُ الكلمات الطنانة التي تستجرّ التصفيق الغريزيّ.
وما يصُحّ في كلام السياسة والاجتماع يصُحّ أَيضاً في الشِعر وخصوصاً بالتفخيميّة المجانية في شِعر الغزل. فهذه المرأَةُ قد تكون جميلةً لكنها ليسَت “أَجملَ النساء” إِلاّ حين يحدِّد الشاعر جمالَها في عينيه لا في المطلق.
هنا تُصبح النسبة إِلى الذات كلاماً مسؤُولاً،كأَن يقول قائل: “هذا في نظري أَفضلُ من ذاك”، بدون التعميم أَنه “الأَفضلُ في المطلق” أَو “على الإِطلاق”.
وما نَشهدُه أَخيراً في هَوْبَرات الشوارع من يافطاتٍ مُـخْزيةٍ وشِعاراتٍ عنترية طنّانة فارغة (يطلقها معظمُ السياسيين)، وتعابيرَ انفعاليةٍ رخيصةٍ أَو بذيئةٍ أَو شخصانيةٍ تُـــؤَلِّــهُ “الزعيم الأَوحد” و”القائد الأَول” و”الرئيس الأَقوى” مُستخدمةً سائرَ صفات “أَفعل التفضيل”، جميعُها تنقلبُ كاريكاتوريةً تُسْقِط “حضرةَ الزعيم” أَو “سعادةَ القائد” أَو “فخامةَ الرئيس الأَقوى”، وتَجعلُه مَـجّانياً رخيصاً زائفاً زائلاً تنطبق عليه صرخةُ “هَـمْلِتْ” الساخرة: “كَلِمات… كَلِمات… كَلِمات”.