عن السياسيّ الفرنسيّ إِميل دوجيراردان (1806-1881) عبارتُه الشهيرة “الحُكْمُ هو التَّحَسُّب”(Gouverner c’est prévoir )
ومرادفاتُ التَوَقُّـع والتأَهُّب والترقُّب والاستباق والارتقاب والاستدراك والاحتياط والرصْد وسواها.
هكذا تعمَدُ الدول إِلى رصْد التحدّيات المحتَمَلَة الآتية إِليها، ومعالجتِها مسْبقاً كي لا تحلَّ فجأَةً فتقَع في بلبلةِ علاجٍ متأَخِّر تنجُمُ عنه كوارثُ بيئية أَو سياسية أَو اجتماعية أَو صحية وما إِليها.
من هنا كَشْفُ الخبير في كليّة السْتراتيجيا (المدرسة العسكرية-ﭘـاريس) جان دوفورك (Dufourcq) ثلاثةَ تحدّيات تُواجِه كوكبَنا يجري العمل على التحسُّب لها: الثورة الديموغرافية (ومقتضياتها الجيوسياسية والجيواقتصادية والتفاوت الاجتماعي)، والضرورات البيئية الطارئة (مواجهة القحط والتصحُّر والتغيُّر المناخي)، والخلَل الاقتصادي (إِعادة تَمَوْضُع الأَسواق العالَـمية الحالية).
وعلى وترٍ آخر، في افتتاح الدورة 68 للجمعية العامة للأُمم المتحدة (2013) ركّز الأَمين العام بان كي مون في كلمته على أَنّ “أَوّلَ التحديات الداهمة: السلامُ ورفاهُ الشُعوب في العالم”، وكان موضوعُ نقاشات تلك الدورة: “وضْعُ برنامج تنمية مستدامة لِـمَا بعد 2015: فَـلْـنُـهَـيِّئ التحضيرات”.
وفي مداولات الدورة الأَخيرة (2014) نوقِشَت تَحدّياتٌ ثلاثة: “ديمقراطية مركَّزة، اقتصاد اجتماعي منفتح وعادل، ودولة قوية وفاعلة تكافح الفقر وتُــثَــبِّت المساواة بين أَبنائها”.
هذا ما يـبحثُه العالَـم اليوم من أَولويات، وتلك بعض تحدّيات يتحسَّب لها ويستَبِق حصولَ أَحداثها (قبل وُقوعها) حتى تتِّمَ معالجتُها على مستوى الدُوَل أَولاً، وتالياً على مستوى كوكب الأَرض.
ونحن؟ ماذا عندنا نحن؟ فيمَ “تبحثُ” الدولة عندنا؟ وماذا “ترتقب”؟ ولِــمَ “تتحسَّب” قبل وقوع الأَزمة؟
من أَعلى مستوى البحث (عند سوانا) في مستقبل الدُوَل ورَفاهِ شعوبها ومصيرِ كوكب الأَرض، نهبِط إِلى شارع ضيِّق تعلو فيه تلال الزبائل وتعجَز دولتُنا عن معالجتِه لأَنها لم “تَتَحَسَّب” لأَزمة النُفايات قبل وقوعها، وعند حلولها ركضَت تَستنجد وتَبحث وتُفكّر وتَتداول وتَطلب مناقصات وتُلغي مناقصات.
ونهبط إِلى أَزمة كهرباء تَفشلُ الدولة في حلِّها منذ ثلاثين سنة وهي تَتخبّط في وُعود ومشاريع وبواخر ومناقشات ومناقصات وعُروض وعرضحالات واتهامات وكومسيونات وجدالات ومجالس وزراء ولجان نيابية، والوضع هو هو: لا كهرباء.
وكلّما أَطل علينا تشرين تطلّ معه طَوَفانات الأَنهر والسواقي ومجاري المياه لأَن الدولة لم “ترتقِب” ولم “تَتَحَسَّب”، فتقع الكارثة وتهرع المعالَجات المتأَخّرة العقيمة التي ليست سوى حبة مُسَكِّن في جسْم يَنخَره السَرَطان.
دولُ العالَـمُ تَـتَـحَـسَّـب لـكُبرى تَحدّيات كوكب الأَرض، وعندنا تَعجَـز الدولة أَمام كومة زبالة على الأَرض.
هذا هو الفرق بين “تَـحَـسُّـبات” رجال الدولة، و”احتسابات” رجال السياسة.