في مُعطَيَات الصورة أَن تحفظ ذاكرة المكان والزمان، فإِذا انقضى الزمانُ واندثر المكانُ بقيَت الصورةُ شاهدةً على الذاكرة البصرية. من ذلك ما تحفظهُ في الذاكرة كتُبُ الفوتوغرافيا، خصوصاً بعد زوال الـمَعْلَـم أَو غياب الأَشخاص.
أَمامي، في هذا السياق، كتابُ “أَســـواق” (Souks) الصادر بالفرنسية في ﭘـاريس سنة 2003 عن منشورات “فلاماريون” في 176 صفحة قطعاً كبيراً، حاملاً نصوصاً من الكاتبة في “الفيغارو” كْلُودِي باران، وصُوَراً من المصوِّر الفوتوغرافي والناشر إِريك بونيـيه.
الكتاب جولةٌ بالنصوص والصُوَر على أَسواقٍ مُميَّزة لافتة من عَشْرِ دُوَلٍ في العالم العربي: مراكش وفاس (المغرب)، تْلِمْسِنْ وغَرْدايَة (الجزائر)، القيرَوان وتونس العاصمة (تونس)، طرابلس الغرب (ليبيا)، القاهرة (مصر)، صنعاء (اليمن)، عمّان (الأُردن)، صيدا وطرابلس (لبنان)، دمشق وحلَب (سورية)، الموصل وبغداد (العراق).
وفي نظرة مؤْلِـمة على ما يَجري في العراق وسورية واليمن وليبيا، وما لحِقَ أَسواقَها والمدُن من أَضرار بفِعل المعارك فيها، يتَّضح ما لهذا الكتاب وأَمثالِه من قيمةٍ في حفْظ ذاكرةٍ لأَماكنَ وواحاتٍ وأَسواقٍ لم تَعُدْ موجودةً وكانت قبلَ المعارك تَضُجُّ بالحياة.
في مقدِّمة الكتاب إِشارةٌ واضحةٌ إِلى رسالته: في عصر العولَمة وتغيُّرات الهُوية أَرضاً وتُراثاً، لا بدَّ من كتابٍ يحفَظ نتاج الأَيدي الحِرَفية الماهرة، والإِرثِ الثقافي الطبيعيّ، وتراثٍ مادّيٍّ وغيرِ مادّيٍّ تَنْسُجُه أَجيالٌ متعاقبةٌ وتتركُه لتلك اللاحقة كي تحافظ عليه.
أَكتفي من هذا الكتاب الجميل بما وَرَدَ عن أَسواق طرابلس وصيدا نَصاً وصُوَراً من الواحتين العريقتين في بلادنا العريقة.
عن صيدا صُوَرٌ لأَسواقها وقناطرها وناسها وعاداتها ومآكلها وحلوياتها وأَسماكها وقلعتها ومقاهيها وحِرَفييها، ونصٌّ يُظهر عراقةَ صيدا وأَسواقَها وسْط مَعْلَمين كبيرَين: القلعة وقصر لويس التاسع، وبينهُما يمتدُّ خان الفرنج من القرن السابع عشر وما كان له من عزٍّ أَيامَ فخر الدين المعني الثاني الذي جعل صيدا عاصمته الشتوية. ويسرُدُ النص معالِـمَ من أَسواق صيدا وما فيه من أَطايب الشاي وغزْل البنات والكنافة وحلاوة الجبن والجلاّب والسنيورة واللبنة والخبز العربي والكعك الخاص والزجاج المنفوخ وسائر مَـحالَّ صناعيةٍ وحِرَفية ما زالت تُحافظ على تقاليد الأَمس والأَيدي التي عَمَّرت.
عن طرابلس في الكتاب صُوَرٌ للجامع المنصوريّ الكبير وحِرَفيّات المدينة وما في أَسواقها من صابون وزيتون وباعة متجوِّلين وأَطباقٍ متـنوعة للسمك والتمْر والذُّرَة ومحالَّ للحِرَف الطرابلسية، ونصٌّ يصفُ المدينةَ وأَبرزَ معالِـمِها من قلعة سان جيل إِلى ساعة التَلّ ونهر أَبو علي ومحل محمد شمّا لصنع الأَعواد والأَوتار وخان الصابون وشرُفات العطْر والياسمين وخان المصريين، وما يَصَّاعدُ في الأَرجاء من روائحَ عطريةٍ لِـما في الأَسواق من أَصنافٍ وأَنواعٍ بعضُها طبيعيٌّ والآخَرُ مُصَنَّع، حتى تغدو الـمِشْيةُ في أَسواق طرابلس نُزهةً مُـمتِـعـةً للشَمِّ والذَوْق والبصَر.
كتاب “أَسواق” (Souks) الصادرُ في فرنسا عن بلادِنا، شهادةٌ على المكان والزمان، تَفوحُ بين دفتيه صفحاتٌ تراثية من عندِنا نحفظُها لأَجيالنا اليومَ وكلَّ يوم، صورةً بالنَص، ونصّاً ينضح من صورةِ تراثٍ لبنانـيٍّ خالدٍ في الزمان.
فَلْنَجْعَلْهُ خالداً في المكان قبل أَن يندثِر من مواقعِهِ المكان.