نقطة على الحرف- الحلقة 1218
لأَنَّ لبنان ليس “مُـتَـنـزَّهاً مخصَّصاً للعائلات”
الأَربعاء 26 آب 2015

          عائلةً لبنانيةً واحدةً ذاتَ مذاهبَ متعدِّدةٍ وطوائفَ مختلفةٍ جاؤُوا، ومن مناطقَ قريبةٍ وبعيدةٍ جاؤُوا، وملأُوا ساحات المدينة أَعماراً مُتفاوتةً بين طفولة وشبيبة وكهولة، وكانت صيحاتُ غضَبٍ بعضُها انفعالـيٌّ عفويٌّ مُرتَـجَلٌ لا قاعدةَ عمليةً منطِقيةً له، وبعضُها الآخَر مُـحِقٌّ مَطلبيٌّ مُـمْكِـنةٌ تَلْبِيَـتُهُ ومنطقيٌّ تطبيقُهُ وضروريٌّ تنفيذُه.

          صحيحٌ أَنّ الغضبَ الشعبيَّ في محلّه، لكنّه في سياقٍ غيرِ مباشِرٍ لاجتراح الحل، خصوصاً صيحاتُ “إِسقاط النِّظام”، “استقالة الحكومة”، “استقالة النواب”، “استقالة هذا الوزير أَو ذاك”، “طَـرْد الطُّغمة الحاكمة”، “عزْل السياسيين ومقاطعتهم”، إِلى سواها من صرَخاتٍ تَشْفي حُرقة المتظاهرين وتُرضي المواطنين الْــيُتابعون من شاشات بيوتهم غضبَ الشارع ضدّ ديمقراطيةٍ مخطوفة.

          ومع الإِقرار غيرِ الـمُحتاج إِلى برهان بأَن الحُكْم في لبنان، منذ سنوات، يَغرق في شبُهاتٍ متحرِّكةٍ أَخطرَ من الرمال المتحركة، ويمضي من فشلٍ إِلى فشل أَكثر، ويُثبت أَنه يفاجأُ بالخطَر الداهم عوضَ التحسُّب له ووضْع حلولِه مُسْبَقاً قبل وقوعه، نحن في فترةٍ حرجةٍ لم يعُد نابضاً فيها سوى شريان الحكومة رغم عطَبها وعقْم فاعليّتها وعرقلات بعض أَعضائها المعطّلين، لكنَّ سُقوطَها ضربُ هاراكيري جماعية يُوقِعُ آخِرَ عِرْقٍ شَرعيٍّ ما زال يعترف به المجتمع الدولي، إِزاءَ شُغورٍ رئاسيٍّ ما زال يُسَبُّبُه مجلسُ نوابٍ عاطلٌ عن العمل مَدَّد ولايته بإِرادته لكنَّ الإِرادة التي تُديره بـ”الريموت كونترول” ما زالت تعطّل إِرادتَه بانتخاب رئِيس للبلاد.

          هكذا غابت عن صيحات الشارع صرخةُ الغضب ضدّ طقْم سياسيٍّ فاشلٍ يأْتينا من عائلات سياسية تناوبت حتى اليوم على امتطاء ظَهْر الشعب من جَـدٍّ إِلى ابنٍ إِلى حفيدٍ إِلى شقيقٍ إِلى صهر إِلى ابن أَخٍ أَو ابن أُخت أَو نسيبٍ أَو قريب، ما جعَلَ لبنان بلدَ العائلاتِ السياسيةِ الحاكمةِ بأَمْرها وأَهلها وسلالتِها ونسْلِها بالأَجداد والأَبناء والأَحفاد والأَصهار والأَقارب والأَزلام والـمَحاسيب وليس مسموحاً فيه، إِلا أَنْدر الأَندر، دخولُ مَن ليس مِن نادي تلك العائلات، فيتواصَل ما نعاينه داخل الوطن من “مطعم العائلات” و”فندق العائلات” ومقهى العائلات” و”مُـتَـنَـزَّه العائلات”، وتشتهر بلادنا من الخارج بأَنها “وطن العائلات” الـمَوروثَـة الـمُـوَرَّثـة الـمُوَرِّثة، يتوارثه أَبناءُ السلالة العائلية جيلاً عن جيل، فيجعلونَه مزرعةً يَتَولَّوْنَها، أَو قطيعاً يَسُوسُونَه، أَو قبيلةً يَتَقَاسَمون مناطقَها قالبَ جُبنة يتداوَلُونه قِطاعاً قِطاعاً وإِقطاعاً إِقطاعاً وقِطعةً قِطعةً كي تظلَّ مضمونةً حصةٌ مقتطعةٌ لكلّ فرد من العائلات الحاكمة.

          هذه هي الصيحةُ الغاضبةُ التي فاتَت مُواطني الغضب في ساحات المدينة، مع صِدْق ما نادوا به من جُرحٍ في مواطنيَّتهم وكرامتِهم ومستقبلِهم، ووعْـيِـهم أَلاّ يظلَّ الشعبُ حُـبُـوباً في مسبحة الزُّعماء، ولا حَطباً في مواقد الحاكمين، فينتفض في لبنان شعبٌ يخلع بوابة الباستيل اللبناني ويعلنُ قيام جمهورية جديدة عَلمانية ديمقراطية حقيقية ينصرف فيها رجال الدين إِلى المسجد والكنيسة والخلوة، ويديرُها رجالُ دولةٍ أَكفياءُ يَضعُون سِلالَهم في خدمة الدولة، لا رجالُ سياسةٍ يضَعُون الدولة في خدمة سُلالَتِهِم.