مع بروز ظاهرة الـ”سيلْفي” في السنوات الأَخيرة لم يَعُدْ للصورة الأَثَــرُ الْــكان لها قبلذاك في حفظ الذاكرة الفردية أَو الجَماعية من خلال صورةٍ كان التقاطُها حدَثاً في ذاته، يستعدُّ له الرجل لباساً وتسريحَ شعر وتَهَيُّؤَ وِقْفة، وتَتَهَيَّأُ له السيّدة بإِبراز ما لديها من حِلِيٍّ وماكياج ونِظْرةٍ تجعل تلك اللحظة الفوتوغرافية تأْريخاً لمرحلةٍ أَو استذكاراً لـمُناسبة.
سنة 1997 تأَسس في ركنٍ من شارع الجمّيزة في بيروت متحفٌ للذاكرة البصرية باسم “المؤَسسة العربية للصورة” باتَ اليوم أَضخم أَرشيڤ بصريّ للعالم العربي جمَعَ نحو 600 أَلف صورة من 12 بلداً تؤَرِّخ لمراحلَ وذكرياتٍ من النصف الأَول للقرن العشرين وبعضُها للنصف الآخَر من القرن التاسع عشر، خصوصاً في العالم العربي من مصر ولبنان وسورية والعراق وفلسطين والأُردن، انطلاقاً من بداية التصوير الفوتوغرافي في العالم العربي نحو 1860.
هذه الثروة الفوتوغرافية جال بها منشِئَا المؤَسسة أَكرم الزعتري ووليد رعد على معارضَ في العالم أَوَلُها لدى قصر الفنون الجميلة في بروكسيل سنة 2002، ثم في ﭘـاريس ومعارضَ دُوَليةٍ لاحقة. بعدها عمد المؤَسِّسان إِلى ضَمِّ مختاراتٍ من تلك المجموعة الضخمة في كتاب “خارطةُ الجُلوس أَمامَ الكاميرا” (Mapping Sitting) صدَر عن “المؤَسسة العربية للصورة” في 250 صفحة قطْعاً وسَطاً في طباعةٍ أَنيقةٍ جميلةِ الإِخراج، حاملاً 840 صورة ونصوصاً بالإِنكليزية من تحرير كارل باسيل وزينة معاصري.
يلفِت في الكتاب تقسيمُه الرباعي بين صورةِ الهُوية، وتقاليد اللباس، ولقطاتِ مصوِّرين جوّالين الناسَ في الشوارع والمناسبات، وصُوَر جَماعيةٍ في مؤَسسات ومدارس، ما يشكِّل في الكتاب ذاكرةً بَصَريةً للبُعد الاجتماعي والهُوية الثقافية وتقاليدَ منوَّعةٍ بدأَت تبتعِد وتزولُ، حَــفِظــتْــها في ذاكرة الحاضر والمستقبل هذه المجموعةُ النادرة من الصُّوَر.
وغنِمَ الثنائيُّ زعتري ورعد مَنْجمَ صُوَرٍ غنياً لدى “ستوديو شهرزاد” كان أَسَّسه سنة 1952 في صيدا المصوِّر هاشم المدَني وفيه لقطاتٌ للمدينة وتطوُّرِها السياسي والشعبي خلال نصف قرن، والهويةِ الاجتماعية لتلك الحقبة. من هنا أَنّ في هذا الكتاب معالِـمَ تاريخٍ للعالم العربي ليس مُدوَّناً في كُتُب التاريخ ولا موثَّقاً في أَفلامٍ وتقاريرَ، بل مطبوعٌ في صُوَر قديمة بالأَسود والأَبيض، منها الفرديُّ كصُوَر وثائِقِ الهُوية أَو جوازات السفر من أَوائل القرن العشرين، وصُوَرِ مواطنين على ساحة البُرج أَيامَ النزولُ إِلى بيروت من الضواحي والأَرياف والقرى حَدَثٌ تُؤَرِّخه صورةٌ عفوية على رصيف البرج أَو تحت أَشجاره العتيقة، ومنها الصُّوَر الجَماعية كتلامذة معهد عينطورة سنة 1888، وتلامذةِ مدرسة المنْيَة في مصر سنة 1940 وتلامذةِ ميتم بيت لحم في فلسطين سنة 1932.
هذا الكتاب “خارطةُ الجُلوس أَمامَ الكاميرا” (Mapping Sitting) صيغةٌ بصَريةٌ نوستالجيةٌ لِحقبة عتيقة بالأَبيض والأَسود قبل قرنٍ كاملٍ من الزمن، يَظهر منها التحوُّلُ الاجتماعيُّ والتراثيُّ للمجتمع قبل أَن تصبُغَه حداثةُ العصر بما يُمكن أَن يُلغي ذاكرةَ الأَمس لولا صورٌ فوتوغرافيةٌ قديمةٌ تُبْقي الذاكرةَ في نبْض الحاضر، وتَحفَظُ مستقبلاً يتواصلُ – ولو فوتوغرافياً – من جيلٍ إِلى جيل.