نقطة على الحرف- الحلقة 1217
فَـرْز النُّفايات لا فَـرْز النِّـكايات
الأَربعاء 19 آب 2015

وسْط ما تشهده البلادُ كلُّها، وعلى رأْسها الدولة، من تَـخَـبُّطٍ في معضلة النُّفايات بين حلولٍ مقترَحَة وحلولٍ ممكنة وحلولٍ مستعصية، تَبزغ محاولاتٌ ناجعة من المجتمع المدني على مستوى الدائرة الصغرى في البلدة، تصلح أَن تكون برنامجاً وطنياً عاماً يُريح البلاد حاضراً ومستقبلاً من الوقوع مجدَّداً في كارثة بيئية داهمة عائمة.

بين تلك المحاولات ما قرأْنا عن تجربة جمعية Terre Liban في التوعية البيئية، وتجربة نساء عربْصاليم في تقليص النُّفايات بفرْزها في البيوت بين عضوية وصلبة، وبإِرسال الصلب إِلى إِعادة التدوير: زجاجيات وكرتونيات وورَقيات وﭘـلاستِكيات وما شابه، فلا يبقى من العضويات وبقايا الأَطعمة سوى حجمٍ قليلٍ يتَّسع له أَيُّ مطمر وأَيُّ مستودَع بانتظار صَرفه أَو تخميره أَو تحويله سماداً.

الفرز إِذاً هو مطلع الحل قبل أَن تتكوَّمَ النُّفايات تلالاً على الطرقات وتُهدِّدَ بالذعر الذي أَطلقَه وزير الصحة أَمس الأَوّل من أَنّ مياهنا مهدَّدة وهواءَنا مهدَّد وغذاءَنا مهدَّد فاهرعوا يا أَصحاب الهِمَم وأَعلِنوا حالة طوارئ بيئية.

هذا وحدَه لا ينفَع. ما ينفَع هو توعيةُ المواطن على ما يجب أَن يقومَ به قبل أَن تتراكمَ نُفاياتُه، أُسوةً بما في تجارب الدول وتعامُلها مع نُفاياتٍ تفوق بآلاف الأَطنان أَحجام نُفاياتنا، ولا مشكلة عندها في تصريف نُفاياتها، والفضل الأَول يعود إِلى الفرز قبل مراكمة النُّفايات في الأَكياس والشوارع.

بين تجارب الدول الإِيعازُ إِلى الأُمهات في البيوت أَن يعطين أَولادَهُن مآكلَ مقشَّرة جاهزة من دون قشور وبقايا يرميها الولد في مستوعبات المدرسة. وفي تجربة أُخرى غَراماتٌ موجِعة يتلقّاها المواطن إِذا وضع أَكياس نُفاياته قبل وقتها المحدَّد أَمام البيت أَو المبنى، وغراماتٌ أُخرى إِذا اتَّضح أَن المواطن لم يَفرز في الأَكياس المعطاة له نُفاياتِها مقسَّمَةً بحسب نوعها الواحد في الكيس الواحد. وفي بلدان كثيرة لم تَعُد المحالُّ التجاريةُ الكبرى تَضع أَغراض الزبائن في أَكياس ﭘـلاستِك أَو نايلون بل في أَكياس وَرَقية لأَنّ تدويرَها وفرْزَها أَسهلُ وأَنجع.

هذا ما على دولتِنا اعتمادُه: توعيةُ المواطنين عِوَض البكاء والعويل والنحيب والتشكِّي والبحث عن تصدير النُّفايات أَو عن مطامر أَو محارق أَو وديان أَو قِفار، فيما تلالُ الزبائل تلطِّخ الهواء والماء والغذاء.

الأَزمة ليست أَزمةَ رفْع النُّفايات بل أَزمةُ قِصْر نظَر وسُوء رؤْية وتَسرُّعٍ في التصرُّف، وطرْح الصوت على الدوَل كي تساعدنا عندما تقع الكارثة لأَننا لم نتنبَّه إِلى الكارثة قبل أَن تقع.

الفَرْز… الفَرْز… الفَرْز، هو الحلُّ في البيوت والمؤَسسات والمستشفيات وجميع الأَماكن قبل رمْي النُّفايات أَمام الأَبواب وفي المستوعبات وعلى الأَرصفة والطرقات.

لكن الحاصل أَنّ السياسيين الأَشاوس عندنا، عوَض أَن يستعملوا الفَرْز لتوعية المواطنين يستعملون المواطنين لعملية الفَرْز، فيفرزونهم نِكايةً ضدّ نِكاية، وطائفةً ضدّ طائفة، وشارعاً ضدّ شارع، وحزباً ضدّ حزب، وتياراً ضدّ تيار، وعندها يا ما أُحَيلى تراكم نُفايات الناس غير الـمُفْرَزة أَمام تراكُم فَرْز الناس ضدّ بعضهم البعض كي يَرتَعَ السياسيون على كراسيهم سُعَداء هانـئين يُشْرفون على الفَرْز من شُرُفات قُـصورهم العالية.