نقطة على الحرف- الحلقة 1209
عندما الــ”بِـحُـضُـور…” يَختصِر الحدَث
الأَربعاء 24 حزيران 2015

        في زمن الصحافة المحترِفة، حتى وقتٍ غيرِ بعيد، كان الحدثُ يَحظى بِـحُضُور مندوبي الصحف أَو الصحافيين مسؤُوليها، لتغطية الحدثِ: سَرداً ورأْياً وربما موقفاً مناهِضاً أَو مؤَيِّداً، فيتابعُ القراء في صُحُفهم غَداتَهُ ما يُعطيهم فكرةً واضحةً عن الحدَث مناسبةً وخطباءَ وتفاصيل، لأَنّ المندوب الصحافي يَحضُر الحدث كاملاً، يدوِّن النقاط الرئيسة في الـخُطَب، وأَحياناً يسجِّل لقطاتٍ خاصةً مُـمَيَّزَةً عمّا يشاهِدُهُ فَيَتَفَرَّدُ لصحيفته بتلك المشاهدات.

          ومنذ مدةٍ تغيرَّت هذه الظاهرة الصحّية فلَم تَعُد الصحافة تَنقُل الحدَث سَرداً ورأْياً وموقفاً بل تسطَّحَت التغطية هيَ هيَ في معظَم الصحف، لأَنَّ هذِهِ لم تَعُد تُرسل إِلى مكان الحدَث مَندوباً أَو صحافياً بل باتت تَكتفي بِــتَــبَــنِّــيها نصَّ وكالةِ الأَنباءِ الواحِدَ الموحَّدَ الوحيدَ، أَو بما يُرسلُه قسْمُ الصحافة والإِعلام في المؤَسَّسة مُنَظِّمَةِ الحدَث، فتَصدُر التغطيةُ في اليوم الثاني أَو الثالث نَصّاً واحداً في معظَم الصحف، وغالباً مع الصورة إِياها في تلك الصحف، ما يُفقِدُ العملَ الصحافيَّ جوهرَه الأَساس: تَــفَــرُّدُ كُلِّ صحيفةٍ بتغطيتها الخاصة.

          ومن سَــيِّــئاتِ هذه الظاهرة المستجدَّة كذلك: نَصُّ الخبَر. فالمندوبُ الصحافي، إِذا حضَر، يَصِلُ مُغادِراً، إِذ يكتفي بِجَمْع نُصوص الكلمات المتوقَّع إِلقاؤُها على المنبر، ويُسَجِّلُ أَسماءَ الرسميين الموجودين أَو مُمثِّليهم لأَن الرسميين نادراً ما يحضَرون بل يُرسلُون مَن يَجْلِس على مقاعدِهم المحجوزةِ لهم، فيُسجِّل المندوبُ الصحافيّ أَسماء مُـمَـثّلي الرؤَساء والوزراء والنوّاب والمسؤُولين، ويُغادرُ غالباً قبل انتهاء الحدَث، يَهرع إِلى خياطة الخبَر من قِطَع النصُوص معه، بادئاً غالباً بذِكْر الرسميِّين جميعاً، وأَحياناً بِــإِبراز مَن اعتادوا أَن “يَشُوفوا خاطر المندوبين” فتَغيبُ أَحياناً أَسماءُ رسميين لا “يَشوفُون الخاطر”، وهكذا يصدر الخبَر في اليوم التالي مُبْرِزاً عنوان الحدَث “… بِـحُضُور …”، ويَستغرق الْــ”بِـحُضُور” معظم أَسطر الخبَر تعداداً أَسماءَ الرسميين، ويَبقى للحدَث وأَصحاب الحدَث وخُطَباء الحدَث بضعةُ أَسطُر في آخِر الخبَر بومضٍ عاجلٍ موجَزٍ مبتسَرٍ سريعٍ لِـمَا “تفَضَّل به خطباءُ الاحتفال”.

          هذه الظاهرةُ متفشيةٌ غالباً في الأَحداث الثقافية. أَما الأَحداثُ السياسيةُ فتستغرقُ مساحاتٍ واسعةً من أَعمدة الصحُف التي تَندُر بينها مَن لا تَزال تُخصِّص حيِّزاً محترَماً للثقافة والفنون، ففي بعض الصحف غابَت كلّياً صفحاتُ الثقافة والفنون وذابَت في صفحات المجتمَع والقضايا والأَبراج والطبخ وطرائف من العالم.

          وهكَذا، بين الْــ”بِـحُضُور…” والْــ”بِـحُضُور…” يغيبُ عَـدُّ الحدَث ويَحضر تعدادُ الحضور الرسمي، ويَسْبَطِــرُّ الخبَرُ في اليوم التالي: هُوَ هُوَ في جميع الصحُف بالصورة ذاتِها والأَسطُر ذاتها والأَسماء ذاتها، فإِذا الْــ”بِـحُضُور…” يَختصِر الحدَث، أَيّاً يكن، ويقتَصِر على ذوي الـحَظْـوة و”شَوْفَـة الخاطر” من أَصحاب الأَلقاب الرسمية.