يتَّخذ الإِبداعُ الموسيقيُّ في لبنان صدارةً رائِدة في الشرق، أَعلاماً خالدين وأَعمالاً خالدة، سطَعَ بها لبنان وتركَ فيها بصمةً بعضُها لا يزال يتردَّد حتى اليوم في الشرق، وبعضُه في العالم.
تأْريخُ هذه الصدارة اللبنانية في توثيق أَكاديمي، انبرَت له الباحثة زينة صالح كيالي في كتابها “الحياة الموسيقية في لبنان من نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم“ صدَرَ بالفرنسية في ﭘـاريس قبل أَسابيع عن منشورات “غوتنر” في 212 صفحة قطعاً وسطاً، تتصدَّره مقدمةٌ من المؤَلّفَين الموسيقِــيَّين اللبنانِــيَّين العالَـمِــيَّين بشارة الخوري وغبريال يارد (وهو كتابُها الثاني في هذا السياق بعد الأَول “مؤلِّفون موسيقيون لبنانيون من القرنين العشرين والحادي والعشرين” الصادر في ﭘـاريس كذلك سنة 2011.
في كتابها الجديد تستعرض الكاتبة المناخَ الموسيقي الغني في لبنان، بِــتَــنَوُّعه البيزنطي والسرياني والفارسي والعثماني والغربي والطقسي الديني، تمازَجَ على أَرض لبنان فَـكَـوَّن ثراءً فريداً في الشرق جعل من المؤَلِّفين الموسيقيين اللبنانيين أَبناءَ هذا الغنى الكبير، ما انعكس في أَعمالهم نكهةً موسيقيةً حاملةً هويةَ لبنان الغنية. لذا استهلت كتابَها بأَنّ “الموسيقى نتاجُ حضارة، فكيف إِذا كانت نتاجَ حضارات متعاقبة على أَرض لبنان” بدْءاً من ﭘـيتاغور ابن صيدا (القرن الرابع قبل المسيح) وإِليه تُنسَب أَولُ نوطة موسيقية، مروراً بــ”غنائيات أَدونيس وعشتروت”، فاستخدام اليونان آلاتٍ موسيقيةً فينيقيةً أَبرزُها الناي من خشب الأَرز كما يؤَكِّد وليد غلمية في مخطوطته “الموسيقى في لبنان” (غير المنشورة بعد)، وكما يُنَوّه مارك هنري مِنْغِي في دراسته المخطوطة كذلك “مقدمة إِلى الموسيقى اللبنانية”، ثم بروز “التخت الموسيقي اللبناني” في معرض شيكاغو سنة 1893 ومثَّل لبنان يومها موسيقيون بقيادة “ملك الناي” في عصره: يوسف أَبو حبلة.
هذا هو الإِرثُ الموسيقيُّ الغنيُّ كما تُبرزه بدقّةٍ علميةٍ زينة صالح كيالي في كتابها، مُقَسِّمةً إِياه فتراتٍ خمساً:
1) قبل 1870: مع الرائد ميخائيل مشاقة.
2) فترة 1870 – 1929: وفيها تأَسس الكونسرﭬـاتوار اللبناني بفضل وديع صبرا.
3) فترة 1930 – 1975: وفيها تطوَّر الكونسرفاتوار مع أَنيس فليحان وتأَسس القسم الشرقي مع جورج فرح، ونشأَت الـ”أَلبا” (الأَكاديميا اللبنانية للفنون الجميلة” مع أَلكسي بطرس، و”جمعية أَصدقاء الموسيقى” مع ناديا كتّانة ومي عريضة، والأَقسام الموسيقية في الجامعات الأَميركية واليسوعية والروح القدس-الكسليك، وظهرت المهرجانات بريادة مهرجان بعلبك سنة 1956، وتشكَّلَ في الإِذاعة اللبنانية كورسٌ برز منه صوت الصبيّة نهاد حداد التي اكتشفها الأَخَوان فليفل وقدّماها إِلى الإِذاعة لتصبح فيروز، ونَـمَت العائلات الموسيقية اللبنانية مع الأَخوين رحباني وتوفيق الباشا وحليم الرومي وروميو لحود وسواهم. وشهدت هذه الفترة انعقاد مؤتمر الموسيقى العربية في القاهرة سنة 1932.
4) فترة 1975 – 1992: وفيها هجرة المؤَلفين الموسيقيين من لبنان بسبب الحرب.
5) فترة 1992 حتى اليوم: وفيها تَوَلِّـي وليد غلمية إِدارة الكونسرﭬـاتوار وإِنهاضُه إِياه من دماره إِلى عماره بَشراً وفروعاً وازدهاراً وفرقَتَي أُوركسترا سمفونية ففيلهارمونية وأُخرى للموسيقى الشرق عربية، وازدهارُ الأَقسام الموسيقية في الجامعات وفي مراكز متخصِّصة كـ”مركز التراث الموسيقي اللبناني” في معهد سيّدة الجمهور.
هكذا يؤَرّخ كتاب زينة صالح كيالي للحياة الموسيقية في لبنان، أَنطولوجيا موجَزةً لـتراثٍ كبيرٍ يَنتظر أَن يَتصدّى لتوسيعه، أَكثرَ بَعد، مَن يُــبرزون ريادةَ لبنان في الحقل الموسيقيّ كما هو رائدٌ في سائر حقولٍ لا تزالُ سنابلها تَتَذَهَّبُ في الشمس ساطعةً إِلى الشرق والعالم صورةً لبنان الإِبداعية التي لا إِلاّها هويةَ لبنان الحقيقية.