قرأْتُ قبل أَيام توصيات المؤْتمر التربوي “كلُّنا للعلم” وفي إِحداها: “ضرورةُ إِصدار كتاب التاريخ الموحَّد… وإِعداد خطة طوارئ لتعليم اللغة العربية”.
أَترك الآن موضوع اللغة العربية لأُعالج لاحقاً أَهميته الـمُلحّة، وأَتوقَّف عند كتاب التاريخ الموحَّد.
في جميع بلدان العالم مفارقاتٌ ومنازعات سياسية لم تَـحُلْ دون وضْع كتاب عن تاريخ تلك البلدان. فليس مسموحاً أَن يبقى تلامذتُـنا بدون كتاب عن تاريخ لبنان لأَن السياسيين اللبنانيين مختلفون على موقعة أَو تسمية أَو حادثة أَو حرب أَو مناسبة.
الغريبُ اختلافُ لـجان وضع المنهج فيما ملْءُ مكتباتنا كتُبُ تاريخ علْمية وضعها أَكاديميون اختصاصيون في تاريخ لبنان القديم أَو الوسيط أَو المعاصر، أَوردوا فيها وقائعَ وأَحداثاً وأَعلاماً في سرد موثَّـق، غالباً غير منحاز، باتت مراجع ثقة يؤْخَذ منها تاريخُنا ومن وثائق أَوردها أَو اكتشفها مؤَلِّفون لبنانيون وأَجانب، جديرةٌ بأَن يتكوّن منها كتاب مدرسي موحّد لتاريخ لبنان.
لِـمَن نكتب التاريخ؟ لأَجيالنا الجديدة. إِذاً ليس من الضروري وضْعُ هذا الكتاب في السياق الزمني المتسلسل كرونولوجياً. لعلّ الأَفضلَ – والأَكثرَ تشويقاً -كتابتُهُ لتلامذتنا بمجموعة قصص ووقائع عن مراحلَ تاريخية ساطعة وأَعلام طبعوها بأَعمالهم وإِنجازاتهم فتكون قصصُهم مدخلاً سلساً إِلى حقبات تاريخية يحفَظها التلامذة روائياً فـتنطبع في أَذهانهم تاريخياً. وثمة كتبٌ بيوغرافية كثيرة تصدر عن أُولئك الأَعلام، فيها ثَـبْتٌ بحقبات من زمنهم تشكّل خارطة تاريخية للأَحداث فلا يُرهَق التلامذة بحفظ أَرقام وتواريخ ببغائياً بل يحفظون حكايات أُولئك الأَعلام وتالياً يحفظون السياق التاريخي.
ولا تُغَــيَّــبَــنّ المرأَة عن تاريخنا، ففيه نساءٌ رائداتٌ صدرَت عنهنّ كتُب موثّقة، تحضرني منهنّ الآن الست نظيرة جنبلاط وما كان لها من دور سياسي متوهِّج، وجوليا طعمة دمشقية وريادتُها الصحافية والاجتماعية، والستّ نسَب وحضورُها الساطع في تنشئة ابنها فخرالدين، وسواهنَّ من نساء قليلات العدد كثيرات الشأْن الحضاري.
ليس من الضروري، لوضع كتاب التاريخ الموحَّد، تشكيلُ لجنة “رسمية” تجتمع وتَدرس وتفكّر وتبحث ثم يختلف أَعضاؤُها وتتلاشى فيبقى تلامذتنا بدون كتاب تاريخ في انتظار وضع المنهج التربوي. البداية ليست من هنا بل من حياكة مصادر تاريخية عمَّن كان لهم في تاريخنا دورٌ سياسي واجتماعي، ولأَعمالهم أُفقٌ واسعٌ عن الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في لبنان: مواسمَ وتقاليدَ وعاداتٍ ومحطاتٍ شعبيةً ورسمية، مجموعُها يشكّل كتاب تاريخ يحفَظه تلامذتُـنا ويحبُّون من خلاله وطنَهم.
وإِن لم تكن هذه غايةَ كتاب التاريخ فلن يعرف تلامذتُنا وطنَهم، ولن يتعرَّفوا إِليه، و… لن يُـحِـبُّـوه.