_______________________________
مركز التراث اللبناني: سعيد عقل بين الشخصية والشعرية
ندوة شهر أَيار لـ”مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأميركية كانت في موضوع “سعيد عقل بين الشخصية والشعرية” افتتحها مدير المركز الشاعر هنري زغيب مركّزاً على “معالجة سعيد عقل بعد غيابه بتعاملنا مع النص لا مع الرجل، وبالقراءة الأكاديمية النقدية المعمقة كي يبلغ نصُّه الشعري والنثري مبلغَه لدى المتلقّي كما صدر عن الشاعر بتقنيته الأسلوبية والمضمونية فكراً ولغةً وجمالية أداء”.
المداخلة الأولى كانت للأديبة إملي نصرالله التي سردَت تجربتها مع الشاعر إبان عملها في “دار الصياد” منذ 1955، وسعيد عقل يومها من أركان تحرير المجلة التي كان مؤسسها وصاحبها سعيد فريحة يطلب إليه ترؤُّس اجتماعات التحرير حين تصدف أن يكون الشاعر في الدار عند انعقاد الاجتماع. ومما جاء في كلمتها: “كان الأستاذ سعيد فريحة دعاه ليكتبَ مقالًا أسبوعيًا على مزاجه. وأذكر كم كان فخورًا به عضوًا في المؤسّسة ويدعوه “سْميي”. هناك تسنّى لي أن أطّلع على مخطوطات مقالاته، وأُلاحظ التشطيب الكثير الذي يُجريه على النَصّ تعديلًا وتبديلًا لشدّة ما كان متطلِّبًا يتأنّى في أسلوبه ويحرص على الأفضل والأجمل من الكلمات. كان ذاك عهدًا ذهبيًا في “الصيّاد”، وكان حضور سعيد عقل لافتًا، يوجّه المحرّرين الشباب إلى قضايا لبنان والأدب والجمال، كأنما هو مرشدنا الفكري واللغوي والأدبي”.
وروت “حين اندلعت حرب حزيران 1967 وصوت أحمد سعيد يسيطر على الأجواء العربية مؤكّدًا انتصار العرب، أخذت الحماسة الأستاذ سعيد فنظم قصيدة لم تَــتَـسَنَّ لأحد قراءتها إذ انكشفت الحقيقة الـمُرّة وسَرَى نبأ الاندحار فراح يمزّق قصيدته فُتاتًا طرحه في سلّة المهمَلات”.
وختمت: “هكذا عرفتُ سعيد عقل يصقل كلماته كالجوهرجي ويُغرق القارئ في حيرة عن أصولها ومنابعها، منذ رأيته للمرة الأولى سنة 1949، في الكلية الوطنية في الشويفات، يوم ألقى أمسية شعرية، كيف بقيَتْ يدُه العالية ماثلة في الذاكرة وحضور شخصيّته المميَّزة وسحر إلقائه. وبقيت يده عالية مدى سنوات عمره المبارك، كأنها إشارة إلى علوّ مكانة شعره وسحر إلقائه. ولا تزال صورتُه تلك ماثلة في ذاكرتي حتى اليوم”.
المداخلة الأخرى كانت للدكتورة هند أديب في عنوان: “الآخر بين ثبات الأنا وتخطّي الذات” تحدثت فيها عن أن سعيد عقل “على غرار معظم الشعراء كان شديد النرجسية، أعطى لحضوره الذاتي موقعًا مركزيًا في مجمل أعماله. ولكن “أنا” الشاعر لم يكن مقطوع الصلة بالآخر بل امتدادٌ له، جزءٌ منه وجوهره. لم يكن الآخر نقيضًا للـ”أنا” أو عنصرًا معيقًا نُـمُـوَّه ينازعه على حق أو يطالبه بتنازل. على العكس يثبّتُ فالآخر كيان الـ”أنا” ويؤكّد خصوصيته وتمايزه. وهذه نظرة سعيد عقل إلى العلاقة التي تربط الـ”أنا” بالآخر”.
وأشارت إلى أن “نرجسية سعيد عقل تغدو حالة شعرية، وبالتأكيد حالة لغوية. فالـ”أنا” مفردة لغوية منتشرة في أعماله. وهذا الـ”أنا” لا يرمز بالضرورة إلى الشاعر بل يرجع في العديد من الحالات إلى الحبيبة التي اجتاحها عدوى النرجسية فصارت مثله ترى نفسها مركزًا للكون. وهذا الكيان الفريد الذي هو الـ”أنا” لا يتردّد في إعلان نفسه عظيمًا ومجيدًا وجميلاً. وهو مختلف عن “أنا” الرومنطيقيين الذي يكتفي بأن يكون ضمير العالم المعذّب، بينما الـ”أنا” عند سعيد عقل يجعل منه الكبرياء كائنًا متساميًا، نقطة التقاء أطراف الكون، نقطة انطلاق الأشياء وولادتها”.
وختمت بأن “الآخر لا يشكّل تحديًا أو لغزًا في الفضاء الهني لعالم سعيد عقل. فالآخر، مهما عظمت قدرته، إما امتداد للـ”أنا” أو توق الآخر نحو الـ”أنا” أو هو في أسوإِ الأحوال خليقة الـ”أنا”. فأوروبا والإغريق والعالم أجمع ولدوا من بين أنامل لبنان المتجسّد بقوة في “أنا” الشاعر، هذا التناغم اللطيف بين طرفي الجدال الحسن يتيح للآخر أن يكون عنصر ثقة للـ”أنا” وعاملاً يدفعه إلى تخطّي ذاته وملاقاة الآخرين. إنه تناغم مبني على إيمان وثقة عميقين بالذات فلا يكون الآخر عنصر اضطراب لتماسكه. هكذا: في عالم مليء بالقلق والخوف من الآخر – القريب والبعيد والمتوسّط البُعد – تبرز المعادلة السعقلية، رغم مثاليتها، عنصُرَ تَـخَطٍّ لصغائر الذات الفردية، وتضامنٍ بين البشر فيشكّل الواحد سندَ الآخر، واستقرار مشروع إنساني في العيش الاجتماعي الواحد”.
وتخلل اللقاء عرض مقاطع مصوّرة لسعيد عقل يلقي قصائده من كتابيه الشعريين: “خماسيات” و”نايات إلى الله”، ومن قصيدته في خمسينية الشاعر الياس أبو شبكة (زوق مكايل 1997).
وفي ختام اللقاء أعلن مدير المركز أن الندوة المقبلة (الاثنين أول حزيران) هي الأخيرة لهذا الموسم وستكون في موضوع: “فصول تراثية لحـكـاية الحـريـر في لبنان – من بَـيْـضـة الـفـراشـة إِلى بَـيَـاض الـحـريـر” وتعالج كيف غَــــيَّــــرَ الحريـرُ وجهَ لبنانَ الاجتماعيَّ والاقتصاديَّ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين.
****************************
يَــــــــــدُهُ… تــلــك الــعــالــيــة
_______________________________________________إِمِلي نصرالله*
هذه ليست أول مرّة أشاركُ في احتفالٍ لتكريم الشاعر العبقري سعيد عقل. لكنها المرّة الأولى بعد غيابه.
تعود بي الذاكرة إلى 1949، وكنتُ في الصف الثانوي الأوّل في الكلية الوطنية في الشويفات. يومَها مديرةُ المعهد الأميرة أسما أبي اللمع دعت سعيد عقل إلى أمسية شعرية. وكنتُ قرأتُ له القليل من قصائده، ولا أنسى لهفتَنا وحماستنا آنذاك، وبقيَتْ يدُه العالية ماثلة في الذاكرة وحضور شخصيّته المميَّزة وسحر إلقائه. وبقيت يده عالية مدى سنوات عمره المبارك، كأنها إشارة إلى علوّ مكانة شعره وسحر إلقائه. ولا تزال صورتُه تلك ماثلة في ذاكرتي.
* * *
مرّت الأيام وعدتُ التقيتُه في “دار الصيّاد” وكنتُ التحقتُ بها مُحرّرة سنة 1955، دعاه إليها صاحب المجلّة ورئيس تحريرها الأستاذ سعيد فريحة ليكتبَ مقالًا أسبوعيًا على مزاجه. وأذكر كم كان فخورًا به عضوًا في المؤسّسة ويدعوه “سْميي”. وإذا صدف حضوره إلى الدار نهار الاجتماع الأسبوعي، كان يُسلّمه كرسيَّ الرئاسة.
هناك تسنّى لي أن أطّلع على مخطوطات مقالاته، وأُلاحظ التشطيب الكثير الذي يُجريه على النَصّ تعديلًا وتبديلًا لشدّة ما كان متطلِّبًا يتأنّى في أسلوبه ويحرص على الأفضل والأجمل من الكلمات. وكان ذاك عهدًا ذهبيًا في “الصيّاد” أتاح لي التعرّف إلى أمين نخله ومارون عبّود بين كبار أساتذةٍ انضمّوا إلى المجلّة تلك الفترة. لكن حضور سعيد عقل كان لافتًا، خصوصًا في اجتماع التحرير، يوجّه المحرّرين الشباب إلى قضايا لبنان والأدب والجمال، كأنما هو مرشدنا الفكري واللغوي والأدبي.
ولن أنسى موقفًا له سنة 1967 مع بدء الحرب، وصوت أحمد سعيد يسيطر على الأجواء العربية مؤكّدًا انتصار العرب. أخذت الحماسة الأستاذ سعيد فنظم قصيدة لم تَــتَـسَنَّ لأحد قراءتها إذ انكشفت الحقيقة الـمُرّة وسَرَى نبأ الاندحار فراح يمزّق قصيدته فُتاتًا طرحه في سلّة المهمَلات.
ولاحقاً عرفتُ الأديبة إدفيك شيبوب، وكانت رئيسة مجلة “صوت المرأة”، فأهدتني ديوانها الأول “بوح” وقرأْتُ المقدِّمة الرائعة التي كتبها الأستاذ سعيد، ومما جاء فيها: “لا ليس إلّا الحبّ تجربة كونية. وحدَه طربُ السذّج وسكرةُ العباقرة (…) كانت المرأة في لبنان موضوعَ وحْي. وكان القلمُ النسوي ليُعشق لا ليَعشق حتى كانت إدفيك”.
* * *
هذا هو سعيد عقل يصقل كلماته كالجوهرجي ويُغرق القارئ في حيرة عن أصولها ومنابعها.
وهذا هو سعيد عقل الذي عدتُ والتقيتُه في زحلة قريبًا وصديقَ عائلة زوجي فيليب نصراللّه.
وكنت لا أزال محرّرة في مجلّة “الصياد” عندما صدرت روايتي الأولى “طيور أيلول”. وبُعَيْدَ صدورها اصطحبتُ ولَديَّ رمزي ومها لزيارة عائلتي في الكفير قريتنا. لم يكن وصلها خط تلفوني في حينه فجاء من يُبلغني ضرورة َاتصالي بصحيفة “لسان الحال” لأَمر هام. وكان سكرتير تحريرها الأستاذ ظافر تميم يبحث عنّي واتصل بصديقٍ في حاصبيا مؤكّدًا على ضرورة مكالمته. وحين اتصلتُ أبلغني أن الأستاذ سعيد عقل، وكان يكتب مقالًا للصحيفة، منحني جائزته وعليّ العودة إلى بيروت لإجراء مقابلة صحفية مع نشر الخبر. عدتُ ولم يكن الأستاذ سعيد في الصحيفة ولا في لبنان. كان مدعوًا إلى مؤتمر في باريس وأوكل إلى شقيقته إِمِلي مهمّة تسليمِيَ الجائزة وأوصى أن يتمّ التسليم في نقابة الصحافة وكان نقيبها الأستاذ عفيف الطيبي.
حدثَ ذلك قبل أسبوع من منحي جائزة “أصدقاء الكتاب” للرواية ذاتها مناصَفةً مع الدكتور سهيل إدريس عن روايته “أصابعُنا التي تحترق”.
* * *
مرّت الأيام وأخذتْـنا انشغالاتنا فلم أعد ألتقي الأستاذ سعيد إلّا في بعض ندواته أو محاضراته. وكانت سنوات الحرب جداراً فرض علينا عزلةً أو رحيلاً نالني منه نصيبٌ بعدما التهم الحريق بيت العائلة وخسر زوجي أعماله فاضطُرّ إلى نقلها إلى مصر ورافقتُه خمس سنوات كانت إقامتي الوحيدة خارج لبنان. وكان من الطبيعي، بعد عودتنا إلى الوطن، أن أستأنف حياتي الأدبية وأتابع الكتابة والنشر في القصّة والرواية.
وذات يوم من 2002 فوجئت باتصال هاتفي من نقابة الصحافة يبلغني أن الأستاذ سعيد منحني مجدَّدًا جائزته “الكلمة الملكة”. اعتذرت لأنني نلت جائزته قبلاً فلتُعط الفرصة لسواي. لكنني، قبل يومٍ من موعد تسلّم الجائزة فوجئتُ باتصال من الأستاذ سعيد نفسه: “لاقيني بُكرا إلى نقابة الصحافة لتستلمي الجائزة”. هكذا أصدر أمرَه وأقفل الخطّ. وطبعاً لم يكن بوسعي سوى القبول مع جزيل الشكر. وتسنّى لي يومها أن ألتقيه إلى المنبر ومعه النقيب الأستاذ محمد بعلبكي وكان الأستاذ جورج سكاف عرّاب ذلك اللقاء.
* * *
هذه نبذة من ذكرياتي الشخصية مع هذا الشاعر الذي طبعني بالتشجيع منذ بداياتي الأدبية وظلّ مرافقًا مسيرتي ومشجّعًا.
وما زلت، منذ أول مرّة شاهدته حتى لقائي الأخير به، أذكُر منه تلك اليد العالية، كأنما تسبقه دومًا إلى المستويات المجيدة التي بلغها وظلّ يريدها قدوةً لكل من عمِلَ أو يعمَل من أجل الحقيقة والجمال، وخصوصًا من أجل الوطن الذي أَحَبّ… لبنان.
__________________________________________________________
*) كلمتُها في الندوة التي دعا إليها “مركز التراث اللبناني” في “الجامعة اللبنانية الأَميركية (LAU) – الاثنين 4 أيار 2015.
************************
الآخر بين ثبات الأنا وتخطّي الذات: سعيد عقل نموذجًا
د. هند أديب*_____________________________________________________________________
بدايةً أشكر الجامعة اللبنانية الأميركية ورئيس مركز التراث اللبناني الشاعر هنري زغيب على دعوتهما إياي للمشاركة في هذا اللقاء.
سعيد عقل، موضوع هذه الندوة، شاعر إشكالي اختلفت حوله الآراء بين مؤيّد ومعارض. لكن شعريته بقيت وهّاجة لم يزدها مرورُ الزمن إلاّ نباهة ولا قدمُ العهد إلاّ حداثة.
على غرار معظم الشعراء كان سعيد عقل شديد النرجسية، أعطى لحضوره الذاتي موقعًا مركزيًا في مجمل أعماله. ولكن “أنا” الشاعر لم يكن مقطوع الصلة بالآخر بل امتدادٌ له، جزءٌ منه وجوهره. لم يكن الآخر نقيضًا للـ”أنا” أو عنصرًا معيقًا نُـمُـوَّه ينازعه على حق أو يطالبه بتنازل. على العكس يثبّتُ فالآخر كيان الـ”أنا” ويؤكّد خصوصيته وتمايزه. وهذه نظرة سعيد عقل إلى العلاقة التي تربط الـ”أنا” بالآخر.
قد يرى بعضهم أن هذه النظرة لعلاقة طرفي الجدل أمرٌ بدهي، بل مطلوب، وحتى مثالي إلى أبعد الحدود. لكنّ المفارقة تكمن في كونها أتت من شاعر أخذت عنده النرجسية أبعادًا لامتناهية، وطغت على كلّ تصوّر للكون والإنسان.
فشاعر الـ”أنا” المطلق (“أنا الشعر تعالى“) المنشغل بتفاصيل فرديّته، الناظر دومًا إلى دواخله، انصرف مرّات عن نفسه ووجّه نظره إلى الآخرين منقّبًا عن قيَمِهم وفضائلهم، فكان ديوانه “كما الأعمدة” حيث للآخر موقع الصدارة. ربما ارتأى أن يتوّج تجربته الشعريةَ النرجسيةَ الطابع بالتغنّي بالآخرين بدل التغنّي بنفسه… أو التغنّي بنفسه من خلال التغنّي بهم.
من “قدموس” (1944) وقبله (“بنت يفتاح” و”المجدلية“) وصولاً إلى “كما الأعمدة” (1974) مرورًا بالدواوين الغنائية، عقودٌ كلام شعري انتهت لتستقرّ في ديوان من قصائد المناسبات. ورغم مسافة زمنية تفصل “قدموس” عن “كما الأعمدة“، تجمع بينهما غير نقطة، لاسيما “الذات” المتوارية قوامها وترتسم خلف تعرّجات خطاب موضوعي. هذا الـ”أنا” الذي لا ينفكّ ينكشف من خلال الآخر. وإذا كانت اللغة المسرحية تحول حينًا دون الانبثاق الملموس للـ”أنا” في الخطاب، فشعر المناسبات يوفّر شروط هذا الانبثاق.
نرجسية سعيد عقل
نرجسية سعيد عقل تغدو حالة شعرية، وبالتأكيد حالة لغوية. فالـ”أنا” كمفردة لغوية تَعرف في أعماله انتشارًا لا حدود له. وهذا الـ”أنا” لا يرمز بالضرورة إلى الشاعر بل يرجع في العديد من الحالات إلى الحبيبة التي اجتاحها عدوى النرجسية فصارت مثله ترى نفسها مركزًا للكون. وهذا الكيان الفريد الذي هو الـ”أنا” السعقلي لا يتردّد لحظة في إعلان نفسه عظيمًا ومجيدًا وجميلاً. وهو مختلف عن “أنا” الرومنطيقيين الذي يكتفي بأن يكون ضمير العالم المعذّب. أما الـ”أنا” السعقلي فيجعل منه الكبرياء كائنًا متساميًا، نقطة التقاء أطراف الكون، نقطة انطلاق الأشياء وولادتها. إنها نرجسية مانعة وإلغائية لا تقبل الشراكة مع أحد:
من يغنّيكِ إن أنا لم ألوّن لكِ السَحَرْ؟ (رندلى، سمر – 35)
مع هذه النرجسية يتحقّق الانفتاح على الكون. فكلّما تقلّص الكون اتّسع الـ”أنا” إلى حدود الكون. وها مركيان التي وصلتْها عدوى هذه النرجسية، تقول:
أنا مركيان الخيال… أنا مات بعدي الجمال (رندلى، على رخامة – 51)
وستعرف هذه المبالغة انتشارًا يحتلّ فيه الـ”أنا” كلّ ذرّة من عالم الحبيبة:
أنا الخمرة في كأسك والسكرة في خمرك
أنا الفوح أنا البوح أنا السهوة في فكرك
أنا القبلة يا أغنار تفترّ على ثغرك
(رندلى، أغنار – 117)
هذا البناء التكراري للقصيدة عبر ترداد الـ “أنا” في مستهلّ كل بيت يخلق حالة عامة من وجود متعدّد الأبعاد، ويعطينا فكرة عن مدى انبثاث الـ”أنا” السعقلي في كيان الآخر لدرجة السيطرة والهيمنة المطلقتين على لبّ الجوهر وظاهره. فهو خمرة الكأس وسكرة الخمرة، وهو البوح والسهوة أيضًا. إن انبثاث الـ”أنا” وانتشاره يجعلانه كيانًا كلّي العلم والمعرفة (Omniscient)، وكلّي الحضور (Omniprésent) في ثنايا كلّ شيء وكلّ روح. إنه الحضور والغياب معًا. وهذه نرجسية بامتياز. ليس غريبًا أن ينتج من تضخّم الـ”أنا” حالة غبطة تتمدّد في كل صوب إلى حدّ إلغاء المسافات جاعلاً من الـ”أنا” مسافة بلا حدود. “أنا طلوع الشمس…” يقول سعيد عقل في “أجمل منك؟ لا” (ص. 52)، ليؤكّد في “دلزى” (ص. 91) “أنا الشعر تعالى…”. فهو إذًا إشعاعة الكون وإشعاع الكلمة. وهذا المزيج من الفخر والنرجسية خلق علاقة بين الـ”أنا” والآخر مبنيّة على الإعجاب والابتعاد. فالحبيبة – كالحبيب – كائنٌ هارب دومًا ومتسامٍ دومًا يستحيل لمسه وامتلاكه. أما القصيدة، فتحوك لغتها وصورها في هذه المسافة الفاصلة بينهما.
في دواوينه الغنائية (مرحلة الخمسينات والستينات وأوائل السبعينات) شكّل الآخر – الحبيبة أو الحبيب – مشروع امتلاك لم يتحقّق أبدًا مفسحاً للشعر أن يتكوّن. غير أن سعيد عقل كان في الوقت نفسه شديد الإصغاء لما يدور من حوله. فبقدرما كان مشدودًا ومنشغلاً بتشييد صورته الفذّة تجاه الحبيبة، كان الحاضر والتاريخ يضعان نصب عينيه نماذج من شخصيات وحالات يشعر تجاهها بالانبهار والإعجاب، فكانت قصائد امتزج فيها المديح بالفخر جمعها الشاعر في ديوان “كما الأعمدة“- مجموعة قصائد في مناسبات مختلفة غنّى فيها مجد بلاده وجيرانه، عظمة الإسلام وعبقرية الأدباء الكبار.
يجسّد هذا الديوان علاقة الـ”أنا” النرجسي بالآخر: كيف ينظر نرجسي مثل سعيد عقل إلى الشام وهي منتصرة؟ إلى الإسلام في ممارسة إيمانه؟ إلى علي سيد القلم والسيف؟ إلى كبار عصره من شعراء وأدباء ورجال فكر وسياسة ممّن سبقوه؟ هذه النظرة إلى الآخر نجدها في أكثر دواوينه تقليدية من حيث المضمون (شعر مناسبات) أو الشكل (استعمال البحور التقليدية).
أ – الشام
يبدو أن الانفتاح على الآخر من الضرورات الشعرية ومكوّن أساس لخيال لا يتحقّق إلاّ بمشاركة الشقيق الذي ينافس لبنان عظمة وحبًّا. فالشقيق هو الشام وهو الحب: الهوى لحظ شامية رقّ حتى قلته نفدا (مرّ بي – 111)
والشقيق أيضًا امتداد للوطن، فإذا بحبّ الشاعر للوطن يصبح حبًا للوطن الآخر.
يا شامُ، لبنان حبّي، غير أنّيَ لو توجّعُ الشام تغدو حبّي الشامُ! (بالغار كلّلتِ – 115)
مشاركة أحزان الشقيق وأفراحه وأتراحه ليست اختراعًا سعقليًا بل خصوصية الأخلاقيات المشرقية، وانتقالها إلى شعر سعيد عقل يعطي المشاركة معنى مزدوجًا هو اعتراف بالقيم الإنسانية التقليدية العربية ودمجها بنرجسية الشاعر الوطنية. فالآخر، في التعيين الأخير، هو أنـًا آخر. عندما يغنّي سعيد عقل سوريا – عظمتها، مجدها، حبّها، ذكاءها –يغنّي الفضائل التي يفترضها للبنان. فسوريا في هذه الحالة لبنان آخر. بهذا التماثل بين لبنان وسوريا، بين الـ”أنا” والآخر، بين النرجسية والغيرية، يعبّر الشاعر عن حالة شعرية-وجدانية يتمّ فيها ذوبان الـ”أنا” في الكون:
نقلةٌ في الزهر أم عندلة أنت في الصحو وتصفيق يمام؟
أنا إن أودعت شعري سكرة كنت أنت السكب أو كنت المدام
(سائليني – 86)
هذا التماثل يحبس الآخر في حدود إدراك الـ”أنا” وبالتالي يعجز التماثل عن التقاط خصوصية الآخر. والخشية هنا أن تستحيل الغيرية وهماً ويتكرّر الـ”أنا” عقيمًا في الآخر. ولكي ينمو الـ”أنا” وجب التقاء خصوصيتين. لذا غنّى سعيد عقل سورية لحظة انتصارها في حرب تشرين 1973، في ما افترضه لحظة خصوصية فعلها: بالغار كلّلت أم بالنار يا شامُ أنت الأميرة تعلو باسمك الهامُ (بالغار كلّلت – 113)
ب – الإسلام
حلقة التكامل مع الآخر تضمّ كلّ العالم الإسلامي، لا انفتاحاً على العدد الأكبر من الأشقّاء بل انتقالاً نوعياً متيناً في العلاقة بين الأنا والآخر. ولو أتى التغنّي بالإسلام من مسلم لكان فعلاً عاديًا. أما أنه أتى من مسيحي يتوجّه إلى الإسلام من عمق إيمانه بالمسيحية في محاولة اعتراف مطلق بقيمته الذاتية، ففعل تَـغَـنٍّ يتجاوز الابتذال إلى فعل إيمان يوحّد الناس والكون والله:
أنا أينما صلّى الأنام رأت عيني السماء تفتّحت جودا
لو رملة هتفت بمبدعها شجوًا لكنت لشجوها عودا (غنّيت مكة – 101)
مع هذا الاتحاد بالله عبر تنوّع المعتقدات يبلغ الشاعر درجة عالية من إنسانية لا تفرّق بين الناس لأن وحدة الله تعني وحدة البشر، والتفرقة بين البشر تؤدّي إلى تفكيك وحدة الله، وكل مساس بوحدة البشر هو نقيض الإيمان الحق ونقض لإرادة الخالق:
وأعزّ ربّي الناس كلّهم بيضًا فلا فرّقت أو سودا (غنّيت مكّة – 102)
كيف يبرز الـ”أنا” في خطابٍ موضوعه الآخر ويفترض أنه يتكلّم على فضائل الآخر؟
كيف، وهو يعدّد صفات الآخر، ينتهي الشاعر إلى الكلام على ذاته وإلى خلق الفضاء المطلوب لامتداد الـ”أنا”؟ من خلال أشكال مختلفة وموضوعات متنوّعة وأزمنة متباعدة يتمّ إنتاج فضاء الـ”أنا” ذاته كغاية متسامية للكتابة الشعرية. والأنوية النرجسية تنفخ في قصائد المناسبات الروح نفسها. فالشاعر لا يغنّي عظمة الآخر إلاّ ليغنّي عظمته هو. وكلما كان الموضوع مستعصيًا وصعبًا تلذّذ في ليّه. ففي قصيدة موجّهة لعلي ابن أبي طالب، المؤمن والمحارب الشجاع والأديب البليغ، يستعير الشاعر من سيرة علي دلالات يبني بها صورة نفسه:
كلامي على ربّ الكلام هوىً صعبُ تهيّبت إلاّ أنني السيف لم ينبُ (كما الأعمدة – 80)
فالكلام على ربّ الكلام يتيح له أن يضاهي بالشجاعة وفن الكلام ذاك الذي صار رمزًا في ذاكرة العرب الجماعية، لا صورة السيف اعتباطية، فهو يستلّها من سيرة علي. كان هذا الفارس الشجاع يحمل سيفًا سديد الضربات. وفي بتماثله بالسيف يعلو سعيد عقل إلى مستوى الشخصية الأسطورية التي كانها علي. وإذ يشيد به إنما يشيد بنفسه وينتقل بالتالي من المديح إلى الفخر:
حببت عليًا مذ حببت شمائلي له اللغتان: القول يشمخُ والعضب (كما الأعمدة – 81)
حبّ الذات يأتي قبل حب الآخر، فيغدو اكتشاف الآخر نتيجة اكتشاف الذات. عليٌ هو الـ”أنا” الآخر، هو سعيد عقل الآخر في أوائل أيام الإسلام. والقصيدة بمجملها مبنية على أساس تماثل بين “الذات” و”الآخر” عبر نماذج وحوافز تعود للآخر (السيف، فن الكلام، الشجاعة، الفضائل الإنسانية، إلخ.). فضاءان وزمنان ثقافيان متوازيان. فرغم الفارق الزمني الذي يفصل بينهما تبقى القيم نفسها كأن شيئًا لم يتغيّر. لا يعترف الفضاء السعقلي للزمن بالقدرة على التغيير. إنه زمن الثبات، إذًا زمن المطلق. وفي جدلية الأنا والآخر عند سعيد عقل، لا مكانَ للتناقض، للنزاع أو للصراع، بل تكامُلٌ يتحقّق في وجود مبدأُه ومنتهاه مطلَقٌ يفلت منّا دومًا ويسعى الشاعر جاهدًا الوصولَ إليه. فالآخر عند سعيد عقل ليس كائنًا موضوعيًا بل كائن افتراضي من خلاله يتحقّق فعل الشاعر الخلاّق ويكتمل. لكنّ هذا الفعل الشاعري ينفّذ في إطار مكاني أبعاده دومًا الـ”هنا” والـ”هناك”، “العلو” و”الأسفل”، “النسبي” و”المطلق”، في محاولة للتقريب بين الأبعاد وإلغاء الفوارق. فالفضاء المنتظم في البدء يؤول تدريجيًا إلى الزوال كمعطى موضوعي ليذوب في الـ”أنا” الجوهري للشاعر.
ج- الشاعر والشعراء
حتى في ذاته الضيقة، يرى الشاعر نفسه تكثيفًا لمدى الدهور وللضمير الإنساني العام. فيتحوّل الـ”أنا” إلى ضمير الوجود:
أنا ابن الدهور، ابن لبنان وعيُ الخليقة بي (على شاطئ الذات – 11)
ويبدو أن وعي الوجود أسمى بكثير من الوجود الذي يعكسه:
أنا ثروة كالكآبة عمقًا وكالغيهب
غنيٌّ أحسُّ الوجود غبارًا على ملعبي (على شاطئ الذات – 12)
انطلاقًا من هذا اليقين يذهب سعيد عقل إلى ملاقاة كبار عصره، يعرّف بقيمتهم ويتمرّى فيهم. فكل شاعر كبير تأكيد جديد لعبقريته:
على اسمكَ بين الحور أغوى وأهدر أنا النهرُ، شوقي، أيّنا اليومَ أشعرُ؟
(فليروِ الزمان – 180)
والاعتراف بالآخر دلالة على قيمة الـ”أنا” الإنسانية والكونية التي لا تعرف الحدود:
معلّمي أنت في الحريتين: هوى العلى وعصفيَ بالثوار إن برُدوا
هل كذّبوا؟ … قال لبنانٌ أنا… وأنا إما وجدت فبالأحرار أنوجدُ! (ملكٌ لك العصر – 155)
ختاماً: لا يشكّل الآخَر تحديًا أو لغزًا في الفضاء الهني لعالم سعيد عقل. فالآخر، مهما عظمت قدرته، إما امتداد للـ”أنا” أو توق الآخر نحو الـ”أنا” أو هو في أسوإِ الأحوال خليقة الـ”أنا”. فأوروبا والإغريق والعالم أجمع ولدوا من بين أنامل لبنان المتجسّد بقوة في “أنا” الشاعر، هذا التناغم اللطيف بين طرفي الجدال الحسن يتيح للآخر أن يكون عنصر ثقة للـ”أنا” وعاملاً يدفعه إلى تخطّي ذاته وملاقاة الآخرين. إنه تناغم مبني على إيمان وثقة عميقين بالذات فلا يكون الآخر عنصر اضطراب لتماسكه.
هكذا: في عالم مليء بالقلق والخوف من الآخر – القريب والبعيد والمتوسّط البُعد – تبرز المعادلة السعقلية، رغم مثاليتها، عنصُرَ تَـخَطٍّ لصغائر الذات الفردية، وتضامنٍ بين البشر فيشكّل الواحد سندَ الآخر، واستقرار مشروع إنساني في العيش الاجتماعي الواحد.
__________________________________________________________
*) كلمتُها في الندوة التي دعا إليها “مركز التراث اللبناني” في “الجامعة اللبنانية الأَميركية (LAU) – الاثنين 4 أيار 2015.
________________________________
http://www.amarbeirut.com/64402
http://claudeabouchacra.com/?p=16319
__________________________________